ثم
ينتقل كاتبنا للحديث عن تربية الجسم،
وأوضح أن المقصود بالجسم هنا هو
العضلات والحواس والوشائج، بالإضافة
إلى الطاقة الحيوية المنبثقة من
الجسم، والمتمثلة في مشاعر النفس ...
وهو ليس مجرد وعاء للنفس كما ذكرت بعض
الفلسفات.
ويشير إلى أن هناك اتصالاً وثيقاً بين
النفس والجسم، والإسلام في تربيته
يراعي الأمرين معاً، وهو صريح في
معالجة الأمور الجسدية كما هو صريح في
معالجة الأمور الجنسية: فهو لا يحتقر
الجسم ولا يستنكره، وإنما ينظم طاقاته
ويضبط تصرفاتها، وفي الوقت نفسه لا
يتركها لشهواتها كي لا تستعبد صاحبها
وتجرفه إلى حيث لا يملك لنفسه القياد.
ذلك
هو دين الوسطية،نفس متكاملة، تأخذ
انطلاقها الكامل في كل اتجاه بقوة
وإصرار وتمكن، وفي الوقت نفسه تتخلى عن
كل متاع حين تريد!
إنه التحرر
القوي ...التحرر الذي تتمثل فيه حرية
الرغبة وحرية الامتناع، فلا تصبح
الرغبة مالكة للإنسان توجهه كما تشاء
وهو إليها منقاد، ولا يصبح الامتناع
موتاً وتهاوياً ولا مبالاة.
ويخلص
الكاتب إلى القول: وهكذا في كل نزعة
فطرية وكل لون من ألوان السلوك، ينشأ
مجتمع متوازن وإنسان متوازن، توازنت
طاقاته، عملت روحه وعقله وجسمه جميعاً
في آن، والجسم في كل ذلك محترم معترف
بكيانه، غير منبوذ ولا محتقر ولا مهان!
وبعد
أن عرض الكاتب كيفية الترابط بين جوانب
الكيان البشري – الروح والعقل والجسم-
والتي كانت خطوطاً عريضة واسعة
المدلول، حاول اختراق النفس البشرية
ليشرح لنا تفصيلات لخطوط متقابلة
متوازنة في تلك النفس، فتحدث أولاً عن
الخوف والرجاء، ثم عن الحب والكره، ثم
الواقع والخيال، ثم الحسية والمعنوية،
ثم ما تدركه الحواس وما لا تدركه
الحواس، ثم الفردية والجماعية، ثم
الالتزام والتطوع، وأخيراً عن السلبية
والإيجابية.
و قد عرض كلاً من هذه الخطوط
المتقابلة، وذكر أن التربية الناجحة
توقع على هذه الأوتار ما يربي النفس
ويشفيها من انحرافها، ويقويها
ويقوّمها ويضعها في وضعها الصحيح،
ويشير إلى أن الإسلام يحكم رباط الوتر
أولاً قبل التوقيع عليه حتى لا تصدر
عنه نغمة نشاز...
و قد كان أسلوب الكاتب بعرض تلك الخطوط
متشابهاً تقريباً، إذ بدأ
يعرض الأمور التي يخافها الإنسان
والأمور التي يرجوها، التي يحبها
والتي يكرهها، ثم علّق عليها، وبيّن
كيف أن الإسلام أحكم رباطها، ثم ساق
نصوصاً قرآنية ليدلل على أن التربية
الإسلامية لم تتجاهل صغيرة ولا كبيرة
في النفس البشرية إلا وعالجتها، ثم خلص
إلى أن الكائن البشري إذا استطاع أن
يحرر النفس من تعلقه بمتاع الحياة على
أسس من نظافة الخلق ونظافة الضمير
وابتغاء مرضاة اللّه، وذلك باتباع
أوامر الخالق والابتعاد عن نواهيه،
فإنه ولا شك سيصل إلى ما وصل إليه
المسلمون الأوائل الذين رباهم القرآن،
فوصلت حساسيتهم إلى حد كانوا يعيشون
فيه مع الله نهارهم وليلهم، ولا
ينصرفون عنه في عمل أو راحة، وسينضم
إلى الذين قال فيهم رب العزة:" كنتم
خير أمة أخرجت للناس* تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
وفي
ما يلي مقتطفات لما أورد الكاتب في هذا
الموضوع، وبعض الشواهد التي ذكرها:
·
الخوف والرجاء: أنهما
بقوتهما واختلاطهما بالكيان البشري
كله يحددان للإنسان أهدافه وسلوكه،
ومشاعره وأفكاره، وعلى قدر ما يخاف،
ونوع ما يخاف، وعلى قدر ما يرجو، ونوع
ما يرجو يتخذ لنفسه منهج حياته، قال
تعالى: " ولا يؤخر الله نفساً إذا جاء
أجلها" ، " يخافون يوماً تتقلب فيه
القلوب والأبصار" ، " قل متاع
الدنيا قليل * والآخرة خير لمن أتقى".
·
الحب والكره: إن الإنسان يحب نفسه،
ويكره كل ما يقف في سبيل شهواته،
والإسلام يريد الناس أن يحبوا وأن
يكرهوا لأن هذه فطرتهم، ولكن الحب على
إطلاقه والكره على إطلاقه يدمران
النفس ويبددان طاقتها، ويستعبدانها
فلا تملك الخلاص ! من أجل ذلك يضع
الإسلام ضوابط لشهوة الحب والكره.
·
الواقع والخيال: لا يقبل الإسلام أن
يحصر الإنسان نفسه في حدود هذا الواقع
الصغير، إنما يريد له أن يعيش في "الواقع
الكبير" الذي يشمل الضرورة
والانفلات من عالم الضرورة ... يشمل ما
هو كائن وما ينبغي أن يكون، فكلاهما
عنصر أصيل في الإنسان. كما يشغل
الإسلام طاقة الخيال بتصور الجمال
والكمال في العالم الآخر، قال الرسول
الكريم يصف الجنة: " فيها ما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
· الحسية والمعنوية:
الطاقة الحسية هي طاقة الجسم المتصلة
بالحواس والأعصاب والبيولوجيا ... إلخ ،
والطاقة المعنوية هي التي تدرك
المعنويات والقيم العليا كالعدل والحق
والجمال ... إلخ. والإسلام يسايرهما
معاً: فيعطي الطاقة الحسية غذاءها،
ويمنح الطاقة المعنوية مجال العمل
والإبداع، قال تعالى : "إن في خلق
السماوات والأرض واختلاف الليل
والنهار لآيات لأولي الألباب...."
· ما تدركه الحواس وما لا
تدركه الحواس: الجاهلية الحديثة تطمس
بصيرة الإنسان، وتحصره في محيط ما
تدركه الحواس فقط، وتقول إن هذه هي "
الواقعية " . أما الإسلام فقد وصف
المؤمنين في سورة البقرة أنهم يؤمنون
بالغيب، وقد جعل القرآن ذلك قاعدة
الإيمان كله، قال تعالى : " ألم *ذلك
الكتاب لا ريب فيه للمتقين * الذين
يؤمنون بالغيب...."
· الفردية
والجماعية: الرأسمالية في الغرب قائمة
على أساس فردية الإنسان، والشيوعية في
الشرق قائمة على أساس جماعية الإنسان.
والفلسفات تخبطت كثيراً ، وتفترض أنه
إذا كان
الإنسان فردي النزعة فالمجتمع إذن
متحكم فيه بغير إرادته، ومن ثم
فالمجتمع مكروه. وإذا كانت النزعة
الجماعية هي الأصل، فإن الإنسان يولد
ضعيفاً لا حول له ولا قوة ولا كيان,
ولولا وجوده في الجماعة ما استطاع أن
ينمو وأن يعيش، ولم تنتبه تلك الفلسفات
أن الطبيعة المزدوجة في هذا الكائن
الحي مترابطة، والإسلام وفق بين
النزعتين، وجعل كلاً منهما تسير في
مسارها، قال تعالى :" وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان".
تابع
عودة
|