القسم الأول >>  وسائل بناء الأخلاق الفاضلة >> الوسيلة الثانية : التعود على الأخلاق الفاضلة

 

الوسيلة الثانية : التعود على الأخلاق الفاضلة :

·            التعود وأثره في بناء الأخلاق والقيم

·            العناصر الرئيسية في الموضوع :

·            العادة في عرف اللغة والاصطلاح .

·            خصائص العادة و الاستفادة من تلك الخصائص .

·            أهمية التعود واكتساب العادة .

·            اهتمام الإسلام بالعادة والتعود ، واستخدامه لها كوسيلة من وسائل التربية .

·            التخلص من الآلية  الجامدة في الأداء جراء التعود .

·            كيف نصل إلى اكتساب العادة و تأصيلها ؟ 

·            إزالة للعادات السيئة و كيفية معالجة الإسلام لها .

·            استعرض لبعض السبل التي تعين وتساعد على تغيير العادات عند الفرد .

·            متى يكون أسلوب العادة أكثر تأثيرا  ؟   

 

 

 

 

التعود على الأخلاق الفاضلة

تمهيد :

وفيه نستعرض نتيجة سبق لنا التحدث عنها ، وهي :

Text Box: إن النفس البشرية لديها استعداد فطري لتقبل واكتساب الأخلاق

 

 

 

 


 

وقد سبق وأن دللنا على ذلك في دروس سابقة .

س : مادام أن هذا الاستعداد فطري لتقبل واكتساب الأخلاق موجود ، كيف يمكننا أن نستثمره ونستفيد منه في بناء الأخلاق والقيم  ؟؟

هناك وسئل كثير ة تحدثنا عن واحد منها وهو النصح والتذكير .

وسنتحدث في هذه المحاضرة عن وسيلة أخرى هي : العادة والتعود

العادة في عرف اللغة والاصطلاح .

     العادة في الدلالة اللغوية هي : اسم لتكرار الفعل والانفعال حتى يصير ذلك سهلا تعاطيه ، كالطبع ، ولذلك قيل العادة طبيعة ثانية .

وعوده أباه جعله يعتاده ، والمعاودة المواضبة ، واعتاده وتعوده أي صار عادة له .

وأما العادة في الاصطلاح : فهي ميل نفسي مكتسب بالتكرار والخبرة ، للقيام بذات الأعمال السلوكية ، بحيث يقوم بها بطريقة آلية عفوية لحد بعيد ، ويطمئن إليها الفرد .

ومن ذلك يمكن استنتاج تعريف للعادة : بأنها ما واضب عليه الفرد ، وأصبح طبعا تطبع به ، لا يستطيع الامتناع عنه ، أو تغيره بسهولة .

ومن خلال التعريف يظهر لنا أن اكتساب العادة يقوم على ثلاث عوامل :

               رغبة الإنسان في شيء يراه أو يسمعه .

               حمل النفس على القيام عمليا بالتقليد .

               التكرار لما رغبت النفس في تقليده

 

خصائص العادة :

عندما تصبح العادة جزء من طبيعة الانسان فهي تحقق خصائص من أهمها :

1-           سهولة أداء العمل المعتاد

2-           توفير الوقت وسرعة الانجاز .

3-           تلذذ الإنسان بفعل ما تعود عليه .

وللاستفادة من خصائص العادة لا بد من :

·        وجود الرغبة القوية لاكتسابها  ، ( وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن مراحل بناء العادة )  .

    ورغبة النفس قد يكون مصدرها : تشجيع الآخرين أو التقليد لهم ، ولهذا نجد أن الإسلام يولي هذين الأمرين اهتماما كبيرا ، فيحث على اختيار الصديق " المرأ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل "  وينهى عن مجالسة الأشرار " إنما الجليس الصالح ، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحْذِيك ( يعطيك ) ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة  " .

    والتقليد الأعمى منبوذ ومستهجن فقد نهى النبي عن التشبه باليهود والنصارى  ، وروي عنه أنه قال " من تشبه بقوم فهو منهم " مسند الإمام أحمد 2/90

·       حمل النفس على القيام بها ، والصبر على اعتيادها (وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن مراحل بناء العادة) 

 

أهمية التعود :

       تكمن أهمية العادة في أنها تعد مصدر سعادة وريادة ، أو مصدر تعاسة وشقاء . فإذا اعتاد الإنسان الفضائل كانت مصدرا لسعادته ، وإذا اعتاد الرذائل والسفاسف كانت مصدر شقاء وضيع .

       إن كثير ممن يعانون في حياتهم سببه عادات سيئة لزموها : فالمدخن يعاني ، والمدمن يعاني ، والمتهور يعاني والمهمل يعاني ……. ومعاناتهم تلك قد توصلهم  لمنزلقات  لا تحمد عقباها ، والواقع يحكي الكثير من مثل ذلك .

اهتمام الإسلام بالعادة والتعود :

       لما كان أسلوب العادة من أنجح الأساليب في بناء الأخلاق والقيم ، خاصة وأن العادة لها تغلغل في النفس يجعلها أمرا محببا ، وحين تتأصل في النفس تكون بمثابة الخلق الفطري ، كان لها مكانة في تكون المسلم وعناية خاصة في بناء الإسلام .

·   فهو يستخدم العادة كوسيلة من وسائل التربية وتأصيل القيم ، ليتحول الخير كله إلى عادة تقوم بغير جهد و مشقة . ولعل هذا بعض ما يفهم من حديث رسول الله  y الذي رواه ابن حبان في صحيحه 2/8 " الخير عادة ، والشر لجاجة ، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

·      ويحث المسلم على المداومة على فعل العمل ولو كان يسيرا ، لكونها الأداة الأولى للتعود ،  ، فعن عائشة رضي الله عنها  قالت قال رسول الله  y: " أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها و إن قل " . قال وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته  صحيح مسلم 1/541 .

· وأبان الإسلام أن طريق تأصيل الخلق : هو تحري فعل الأمر حتى يصبح سجية وطبعا ، وأن سبب تأصل بعض الصفات الذميمة هو أيضا التعود على فعل تلك الصفات حتى تصبح سجية وطبعا وخيما في نفس الإنسان ، يقول y : " عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب ثم الله صديقا ،  وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب ثم الله كذابا " . متفق عليه .

 

       وإذا نظرنا إلى كثير من المعطيات في تشريعنا الإسلامي نجد أنها دعوة للالتزام بالقيم والمثل النبيلة عن طريق تعود المسلم عليها ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ، نذكر منها :

v    رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي  y  قال :  لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك  مع كل صلاة .

v    وروى مسلم في صحيحه 1 / 205 عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله  y يقول : " لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها " 

v    وعن أبي هريرة قال قال رسول الله  y  ثم الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها   كفارة لما بينهما  قال والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان إلى رمضان   كفارة لما بينهما .. مسند أحمد 2/ 229  

v    وعن أبي هريرة t أن رسول الله  y  قال : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " متفق عليه .

وكان يداوم على أمور فلا يدعها في حله وترحاله :

ü  فعن عائشة أن مما كان يواظب عليه النبي y فركعتين قبل الفجر حيث قالت : " فأما ما لم يكن يدع صحيحا ولا مريضا ولا غائبا ولا شاهدا فركعتين قبل الفجر "  رواه أحمد في مسنده 6/43 

ü  وروى البخاري في صحيحه 1/388 باب المداومة  على ركعتي الفجر ، عن عائشة tا قالت ثم صلى النبي  y ..... ركعتين بين النداءين ولم يكن يدعهما أبدا "

ü  وروى ابن حبان في صحيحه  3/99 ، عن معاذ بن جبل قال ثم سألت رسول الله y : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله "

ü     وروى البخاري في صحيحه 1/24 عن عائشة  أن النبي  y قال : " أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " . 

من هذه النصوص وغيرها الكثير الكثير ، يظهر لنا أهمية المواظبة والاستمرار في الأعمال الصالحة بغية أن يجعلها سجية ملازمة للمسلم في حياته وطبعا متأصلا فيه ويمكن لنا أن نلخص بعضا من ذلك في نقاط منها :   

ý    أنه يدعو المسلم إلى الوضوء ويأمره بالسواك  ويطلب منه تكراره ، ويربطه بالصلاة التي يتكرر فعلها له ليتعود على خلق حميد ومستحب للنفوس هو خلق النظافة  .

ý    وفي الصلاة  وما فيها من أقوال وأفعال تتكرر من المسلم  إنما هي تعويد له على قيم أخلاقية  كثيرة منها : التواضع - الإنابة - الخشوع – التركيز

ý          ويجعل مواقيت منظمة مرتبة للصلاة والزكاة والحج ، بغيت تعويد المسلم على الالتزام بالنظام والانضباط .

ý    ويدعو إلى تكرار الطاعة وفعل الخيرات لكي يكون المسلم عنوانا للبذل والعطاء ، بل ويدعوا بذلك " اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات .."  كما في حديث الترمذي 5/366

كل ذلك وغيره الكثير مما يظهر لنا أهمية العادة و التعود على فعل مكارم الأخلاق والتخلي عن رزائلها في الإسلام .

س : كيف نصل إلى مرحلة  التعود  ؟

يقول الإمام الغزالي صاحب كتاب الإحياء في خضم حديثه عن اكتساب الأخلاق الحميدة :

فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود ، فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال ، فلا يزال يطلب نفسه ويواظب عليه مجاهدا نفسه في ذلك ، حتى يصير البذل طبعا له ويتيسر عليه فيصير به جوادا .

وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع ، وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة ، يتكلف ذلك ويجاهد نفسه عليه ، إلى أن يصير التواضع خلقا له وطبعا ، فيتيسر عليه. 

وهكذا يمكن تستخدم العادة كوسيلة لتكوين الأخلاق الفاضلة  أو التخلص من القيم السيئة ، ويمكن لنا أن نطرح رسما توضيحيا لهذا الأمر :        

 

 

أولا : الإرادة الجازمة

       وهو عامل الإرادة الذي لا يمكن للإنسان بغيره أن ينجز شيئا من مكتسباته . ولأجل هذا جاء الخطاب القرأني بتقديمها على الفعل  ] إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ فالصلح بين الزوجين لا يكون إلا بإرادتهما القوية . بل إن التذكر والاعتبار بأمر عظيم مهول مذهل  لا يتحققان إلا مع وجود الإرادة ]وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [ ، وكذلك اكتساب العادات وسائر المكتسبات لا يكون إلا بالإرادة . بل إن تلك الإرادة لابد أن تكون إرادة عازمة قوية مقرونة بالتوكل على الخالق جل وعلا  ،  ] فإذا عزمت فتوكل على الله [ .

 

ثانيا : التدريب العملي والممارسة التطبيقية :

       إن الإرادة المجردة إذا لم يتبعها عمل وتطبيق تصبح أمرا لا طائل منه ولا فائدة له ، فغرس المبادئ الجديدة والقيم الفاضلة والعادات الحسنة الجميلة تحتاج لتأصيل وتطبيق عملي ، ونبينا y  لم يقف عند حد التوجيه النظري بل سلك معهم التدريب العملي ، لأنه الطريق الأمثل لتقويم السلوك وتأصيل العادات حتى تصبح جذورها عميقة في نفس المتعود . والأمثلة على ذلك كثير ة ، نذكر منها :

·      أنه كان y يدعوهم ويحثهم على مبدأ التشاور كما أمره ربه ] وشاورهم في الأمر [ ويؤصل ذلك عمليا في الواقع ، حيث روي عنه y أنه لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي   أنزلك الله إياه  أليس لنا أن نجاوزه  نزلت للحرب والمكيدة ؟! فقال : نزلته للحرب والمكيدة . فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ماوراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله y ففعل كذلك . تفسير ابن كثير 2/293 

·      وعندما أراد أن يرسخ مبدأ الطاعة والنظام بأسلوب عملي كان الأمر برص الصفوف وسد الفرج واعتدال الصفوف ، وعدم مسابقة الإمام في الركوع والسجود ، مما له أكبر الأثر في تعويدهم على الطاعة والنظام .

·      وعندما نزل التحريم القطعي للربا قام رسول الله بأسلوب عملي حيث قال : أيها الناس إن كل ربا موضوع ، و أن أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " .  رواه أبو يعلي في مسنده3/139

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثير ، والتي لا يسع المقام لذكرها .

وعليه فإن الأس الأساسي في ترسيخ العادة وتأصيل القيم هي التطبيق العملي .

 

ثالثا : مجاهدة النفس :

بعد تخطي مرحلتي الإرادة والتطبيق العملي ، يجد المتعود نفسه في قلب الصراع الحقيقي ، وهو مجاهدة النفس والتغلب على أهوائها ] إن النفس لأمارة بالسوء [ فهي تتوق نحو الدعة والراحة والغرائز والملذات ، ولأجل ذلك كانت مجاهدتها من أجل وأعظم الأمور ، ففي الحديث عن النبي y انه قال : " المجاهد من جاهد نفسه ".  الترمذي 4/165  .

       فحمل النفس على القيام بالشيء ، ومقاومة النفس على اعتياده جانب يحتاج إلى مقاومة وجَلَد وعزيمة ، والصبر هو الأساس الذي تتقوى بهي العزيمة ، ولهذا اقترن الصبر بالعزيمة في آيات كثيرة في كتاب الله ] وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ ، ] واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ ، ] فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ ، ]ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور [ .

وعلى من يجاهد نفسه أن يلاحظ أنه أمام خيرين :

· إما التراجع و الانهزام ، وحين ذاك يكون مثله ] كالتي نقضت غزلها  من بعد قوة أنكاثا [ أي كالمرأة التي تغزل غزولها وتفتله محكما ثم تحله .

· وإما التحمل والصبر مع ملاحظة الأمور التالية :

1-          أن وصوله للمطلوب ليس بالأمر المستحيل ، وذلك لوصول غيره إليه .

2-    إن هذه الصعوبة والمعاناة والمجاهدة في تأصيل العادة ستخف شيئا فشيئا حتى تألفها النفس وتتعود عليه . فالوعد الرباني بالهداية إلى سبيل الرشاد متحقق بمشيئة الله : ] والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ ، وزوال المشقة حاصل إن شاء الله ] سيجعل الله بعد عسر يسرا [ .

3-    إن لذة الوصول لغايته وهدفه سيجعل من تلك المشقة والمعاناة أمرا منسيا ، ويصبح الشعور بلذة العادة هو السائد والمهيمن علي مشاعر الإنسان 

 

هناك ثلاث طرق لتسريع عملية اكتساب العادات الايجابية:

 

الطريقة الأولى:    التأكيد :  ويشتمل على أمور :

أولها : مخاطبة النفس :

       أن النفس الإنسانية هي مصدر أفعال الإنسان التكليفية ولأجل ذلك كانت الخطابات القرآنية موجهة إليها عند التحدث عن الحساب والعقاب : ] كل نفس بما كسبت رهينة ) ، ] علمت نفس ما قدمت وأخرت [ ] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ..[ .

ولهذا كانت مخاطبتها في عملية تسريع اكتساب العادات جانب مهم ينبغي أن نعول عليه ، وهو مسلك أشار إليه القرآن وفهمه الصحابة ، يقول تعالى :] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .. [ ، ويقول جل وعلا : ] أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله [، يقول أنس سمعت عمر بن الخطاب يقول وبينه وبيني جدار : عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ، بخ بخ ، والله للتقين الله يبن الخطاب أو ليعذبنك . ويقول أبوبكر الصديق  : من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته .

وعليه فإن أولى الأمور التي ينبغي أن نشرع فيها لتعديل أو تأصيل قيمنا هو مخاطبة أنفسنا بما نرغب في تأصيله أو تغيره .

ثانيها : الإصرار والتأكيد في ذلك الخطاب :

فالإصرار والتأكيد في مخاطبة النفس على فعل إيجابي ‘  جانب مهم في تحقق حصول المطلوب ، وفيه نوع من الإيحاء للنفس بتحقق حصوله ، ولعل في قول عمر في مخاطبته لنفسه ]والله لتتّقيَنّ الله [ ما يشير إلى ذلك .

كما أن هناك بعض الدلائل التي قد تشير إلى هذا المعنى : 

كما في قول النبي يوم بدر بعد أن دعا ربه وألحّ في طلبه حتى قال له أبو بكر : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك . فخرج وهو يقول : ]سيهزم الجمع ويولون الدبر [  . نعم هي في الأصل بشارة من الله لنبيه بتحقق النصر ، إلا أن الوجه الآخر لذلك الخطاب إصرار وتأكيد على تحقق حصول النصر قبل وقوعه .

وكذلك في قول إبراهيم عليه السلام ] إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ بسين المستقبل ، وذلك للجزم بوقوع الفعل ، فدلالة السين على التأكيد لفرط توكله على خالقة وتيقنه من تحقق ذلك .

وكذلك في قوله تعالى ] إني مغلوب فانتصر [ .. إلى غير ذلك من الأمثلة التي فيها نوع من تأكيد الخطاب

واستقراره داخل نفس الإنسان حتى يصبح حقيقة متجسدة تعبر عنه جوارحه في الخارج .

 

ثالثها : قوة العزيمة  :

       وهو عامل الإرادة الذي لا يمكن للإنسان بغيره أن ينجز شيئا من مكتسباته . وقد سبق أن تحدثنا عنه في عنصر ( الإرادة الجازمة ) .  >>>

 

الطريقة الثانية: رسم صورة عقلية:

وهذه أروع قدرة يمتلكها الإنسان. فإن أية صورة يرسمها الإنسان في عقله بوضوح يستطيع أن يحققها بمشيئة الله تعالى  .

.   ولهذا وضع النبي  y هداية قومه حتى في أحلك الظروف صورة مرتسمة في ذهنه y " اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون " ، " لعل الله يخرج من ضئضئ هؤلاء قوم يحبهم الله ويحبونه " وحصل وتحقق ذلك .

نعم هو النبي وهي النبوة وهو المعلم أيضا والقدوة والأسوة وتلك الصور الناصعة التي يرغب في أن نتعلمها ونضعها نصب أعيننا .

وهذا عمير بن الحمام t وضع الشهادة نصب عينيه ، فتحققت له ، ففي حديث مسلم عن أنس بن مالك t أن رسول الله  y  قال لأصحابه يحثهم على ملاقاة العدو يوم بدر : " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض " فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم. قال : بخ بخ قال رسول الله  y ما يحملك على قولك بخ بخ ،قال: لا والله يا رسول الله؛ إلا رجاء أن أكون من أهلها . قال: فإنك من أهلها. قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال :لئن أنا حييت حتى آكل من تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم   قاتلهم حتى قتل  .

 

 

 

 

 

 

ومن هذه الوقائع يمكننا أن ندرك أهمية رسم صور في ذهن الإنسان لما يرغب في اكتسابه من قيم أخلاقية وعادات نبيلة  فإن ذلك التصور ينجم عنه عدة أمور منها :

·             التركيز الذهني نحو هدف معين وغاية مقصودة .

·            البعد عن التخبط والتشتت الذهني بكثرة التصورات المقصودة  .

فتصور النفس بأنها حققت نجاحا معينا في أمر ما يولد لديها القابلية لتحقيق ذلك الأمر ، ولو جلس الإنسان مع نفسه قبل عمل أي شيء مدة بسيطة من الزمن – لتكن دقيقتين أو ثلاث - ، ورسم صورة واضحة في ذهنه لما يريد ، وأتبعها بتوكل قوي على خالقه جل وعلا ] فإذا عزمت فتوكل على الله [ ، وتصور النتيجة بوضوح وإيجابية وكأنها تحققت كما يريد تماما، فإن ذلك مما يعين الإنسان على تغير ما يرغب في تغيره من سلوكيات وقيم أو اكتساب خلق أو انجاز عمل .  

 

 

الطريقة الثالثة : مثل دور الشخص الذي تريده :

روى ابن ماجة والبيهقي في السنن عن النبي  y أنه قال : " إن هذا القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم   تبكوا فتباكوا " .

وفي ذلك نوع من  التعايش مع الحال والصفة التي يرغب في تحصيلها ، هذا التعايش الآني فيه نوع من استطعام لذة تلك الصفة واستمتاع بمعطياتها ، وحين ذاك يكون الداعي لاكتساب تلك الصفة والارتياح لها ومحاولة تأصيلها في نفسه  أقوى ، لأن من ذاق عرف .

فالغرض من ذلك التعايش بتلك الصفة ليس استدامته ، وإنما هو دور مرحلي يستطيع من خلاله الانتقال إلى مرحلة أسمى وأعلى وهي تجسد تلك الصفة فيه واقتنائه لها .

يقول بعض من كتب في علم تعديل السلوك : إن من العجيب أنك إذا تظاهرت بأنك إنسان مختلف تماما فانك تملك سلوك ذلك الإنسان في أقل من خمس دقائق . فإذا تصورت نفسك مرحا ولو تمثيلا تصبح مرحا في أقل من خمس دقائق . وإذا انتابك شيء من الخوف وتقمصت دور الشجاع المقدام فإنك خلال دقائق معدودة تجد نفسك تغلبت على ذلك الخوف وأقدمت بشجاعة على ما تريد

 

 

 

 

 

 

ومن أهم الأساليب في اكتساب العادات الجيدة

·   اختيار الوقت الذي يكون الذهن فيه صافيا وغير مشوش ، وحين ذاك يكون قادرا على التلقي . وأفضل الأوقات لذلك قبيل النوم وفي جوف الليل وفي الصباح الباكر ، فجميع هذه الأوقات أوقات يصفوا الذهن فيها فينبغي استغلالها فيما هو خير ، وفي القرآن إشارات لذلك ] وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ ] ومن الليل فتهجد به نافلة لك ..[ ] قم الليل إلا قليلا إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا [.

·   عليك بالاسترخاء وتركيز الذهن و التنفس بانتظام وعمق ، كل ذلك يعين النفس على الارتياح وتقبل ما يمكن أن تمليه عليها . و في ندب الشارع الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن الإسراع والجري إليها ، مع الخشوع والخضوع فيها وعدم العبث وسكون الجوارح ، مما يمكن أن نستفيد منه في هذا الباب .

·        لا تنس قوة الإيحاء ، يجب استخدام هذه القوة بالطريقة المفيدة والمجدية ، وأهم مصادر الإيحاء :

·   الأشخاص الذين نعاشرهم ، قال الله تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن   يوحي بعضهم  إلى بعض زخرف القول غرورا ".  فاختيارنا للأشخاص الذين نريد معاشرتهم باهتمام وتفكير له أثر مهم في تحقيق مقاصدنا الإيجابية ، وأما معاشرة الضائعين فهو أمر يحطم كل ما نبنيه ونجتهد في بنائه . وصدق النبي  yحيث قال :" المرأ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أبو داود والترمذي  ، وقال  y " إنما مثل الجليس  الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة . ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة " متفق عليه

·   حدد مدة للتغير واكتساب الصفات الإيجابية ( لتكن أسبوعا أو عشرين يوم أو شهر) حسب نوع الصفة و قوة تقبلك لها ، راغب نفسك خلالها ، وارصد التغيرات ، وإذا لم يطرأ تغير فراجع  أسلوب العلاج ومتعلقاته فربما كان فيها شيء من الخلل .

·        لا تغير الدنيا كلها مرة واحدة .

توقف عن الأفكار السالبة :

·   إذا أخطأت لا تجعل الحسرة بسبب الخطأ هي كل شيء ، تجنب اليأس والقنوط ، وتذكر أن فضل الله واسع ، وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .

·        لا تفكر بالماضي بحسرة ، لا تفكر في المستقبل بآمال غير واقعية .

·        وتذكر أن كل ما تريده هو نتيجة للصورة التي  ترسمها  في ذهنك .

 

 

 

 

التخلص من الآلية  الجامدة في الأداء جراء التعود .

قد يعتري العادة نوع من الجمود في الأداء ، فيصبح المكلف بحكم التعود كالآلة الجامدة التي لا روح فيها ، و الإسلام مع استخدامه العادة كوسيلة من وسائل التربية ، إلا أنه في الوقت ذاته يحول دون الآلية الجامدة في الأداء ، بالتذكير الدائم بالهدف المقصود من الفعل الذي تعود عليه  والربط الحي بين القلب وبين خالقه ، ربطا تسرى فيه الإشعاعات المنيرة إلى القلب ، فلا ترين عليه الظلومات.

       ولأجل هذا كان الإخلاص والنية ركيزة عظيمة ترتكز عليها أفعال المكلفين ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى ...) .

       وكذلك الأجر العظيم الذي وضعه الخالق جل وعلا للعاملين سبب من أسباب انبعاث الروح في العمل واستشعار السعادة بالجائزة من الخالق جل في علاه .

       وكذلك ما ينجم من فعل المكلف من خير يعود على الآخرين أو رفع كربة أو دفع ضر أو إزالة معانة .. كل ذلك مدعة لسعادة المكلف بأفعاله التي تعود عليها تلك السعادة التي تذيب الجمود الذي قد يعتري العادة .

 

يقول الإمام الغزالي صاحب كتاب الإحياء في خضم حديثه عن اكتساب الأخلاق الحميدة :

فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود ، فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال ، فلا يزال يطلب نفسه ويواظب عليه مجاهدا نفسه في ذلك ، حتى يصير البذل طبعا له ويتيسر عليه فيصير به جوادا .

وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع ، وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة ، يتكلف ذلك ويجاهد نفسه عليه ، إلى أن يصير التواضع خلقا له وطبعا ، فيتيسر عليه. 

وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق ، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذا .

فالسخي : هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله ، دون الذي يبذله عن كراهية ، والمتواضع : هو الذي يستلذ التواضع.

ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس ، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة ، وما لم تترك جميع الأفعال السيئة ، وما لم تواظب عليها مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ، ويتنعم بها ، ويكره الأفعال القبيحة ، ويتألم بها ، كما قال e  : "وجعلت قرة عيني في الصلاة . . ".

 

 

إزالة العادات السيئة :

لقد بدأ الإسلام بإزالة العادات السيئة بإحدى الوسيلتين :

·              إما القطع الحاسم الفاصل ،

·              وإما التدرج البطيء ، حسب نوع العادة التي يعالجها وطريقة تمكنها من النفس.

فكل عادة تتصل بأصل التصور والعقيدة والارتباط المباشر بالله ، فقد قطعها قطعا حاسما من أول لحظة ، فهي كالأورام الخبيثة في الجسم ، ينبغي أن تستأصل ، والشرك بكل عاداته وتصوراته ، وعادة مثل وأد البنات ، وكذلك العادات النفسية من كذب ، وغيبة ، ونميمة ، وغمز ، ولمز ، وكبر ، وعنجهية . . إلخ.

كان لابد من مواجهتها مواجهة حاسمة ، وإن كانت الوسيلة إلى ذلك هي التوجيه المحيى للقلب ، والاتصال بالله في السر والعلن ، وفى حالة الأخذ والعطاء. وكلها عادات يمكن أن تنتقل فيها النفس باللمسة الموحية في لحظة واحدة من أقصى الشمال لأقصى اليمين دون تدرج ولا إبطاء!

أما العادات التي ترتبط بأحوال اجتماعية واقتصادية متشابكة ، فقد لجأ فيها إلى التدرج البطيء مع استمرار الوعظ والتوجيه واستحياء القلوب.

فالخمر ، والزنا ، والربا ، والرق . . لم تكن عادات ( فردية ) وجدانية بقدر ما كانت عملة سارية في المجتمع ، وهى كذلك ليست من العادات التي تستطيع كل نفس أن تحسم موقفها منها في لحظة ، فلا يعاودها الحنين إليها ولا تعود ! لذلك لجأ في علاج كل منها إلى التدرج على مراحل ودرجات ، أو أخّر تحريمها حتى اكتمل نمو المجتمع المسلم . . "

 

س : متى يكون أسلوب العادة أكثر تأثيرا  ؟ 

من عرضنا السابق تبين لنا أن : أسلوب ( العادة ) من أنجح الأساليب في بناء الخلق الكريم.

 ويكون أكثر تأثيرا إذا استخدم في مرحلة الطفولة. ( فكل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو نصرانه أو يمجسانه .. ) وكما قال الشاعر :

وينشأ ناشئ الفتيان فينـا     *    على ما كان عــوده أبــــوه

وما دان الفتى بحِجى ولكن   *    يعـوِّده التــديـنَ أقـــربـوه

وكما قال آخر :

قد ينفـــع الأدب الأولاد في صغر    *    وليس ينفعــهم من بعــــده أدب

إن الغـصون إذا عـدلتها اعــتدلت  *    ولا تليين - ولو لينته – الخشــــب

فتعويد الطفل من صغره على الخير يكسبه محبة له ، فيصير له عادة

الغزالى :

" والصبى أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفسية ساذجة ، خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش ، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ، فإن عود الخير وعلمه ، نشأ عليه ، وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه فى ثوابه وهلك ، وكان الوزر فى رقبة القيم عليه ، والوالي له.

( يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا )