حدثني صاحبي قائلاً:
كنت في رحلة دعوية إلى الحدود البرية
بين
دولتي السنغال وموريتانيا؛ حيث يوجد عدد كبير من اللاجئين النازحين من
موريتانيا. كان الطريق وعرًا موحشًا أصابنا فيه شدة
وتعب، قطعنا فيه المفازة بعد
المفازة، ولا نرى أمامنا إلاَّ أمواجًا من السراب، تزيد من هَمِّ الإنسان
وتطلعه
إلى
النهاية. لا نصل إلى قرية من القرى المتناثرة هنا
وهناك إلاَّ نجد من يحذرنا من
قُطَّاعِ الطرق ولصوص الصحراء. تسع ساعات مرت
وكأنها لا تريد أن تنتهي، ثم يسَّر
الله
لنا الوصول إلى مواقع اللاجئين وقد أسدل الليل ظلامه.
وجدت
صاحبي قد
أعدَّ لنا خيمة وضع فيها فراشًا باليًا هيأه لنومي، ولكن ما أجمله من فراش بعد
أن
هدَّ
منا السفر ما هدّ. ألقيت بنفسي على الفراش من شدة
التعب، ثم رحت أتأمل رحلتي
هذه.
أتدري ما الذي خطر في نفسي؟!
شعرت
بشيء من الاعتزاز والفخر، بل أحسست
بالعُجب والاستعلاء! فمن ذا الذي سبقني إلى هذا المكان؟!
ومن ذا الذي يصنع ما
صنعت؟! ومن ذا الذي يستطيع أن يتحمل هذه المتاعب؟!
وما زال الشيطان ينفخ في قلبي
حتى
كدت أتيه كبرًا وغرورًا - والعياذ بالله - إلا أن الله رحمني فنامت عيني، ورحت
أغط
في سبات عميق.
امرأة بيضاء في المخيم
خرجنا في الصباح الباكر نتجول
في
أنحاء المنطقة، حتى وصلنا إلى بئر يبعد كيلومترًا واحدًا تقريبًا عن منازل
اللاجئين يروي منه الناس ويستقون، فرأيت مجموعة من النساء يحملن على رؤوسهنَّ
قدور
الماء، ولفت انتباهي امرأة بيضاء من بين هؤلاء النسوة، كنت
أظنها - بادي الرأي
-
واحدة من
نساء اللاجئين مصابة بالجذام المنتشر بين بعض الناس هناك، لكني فوجئت
بأنها منصِّرة: شابة في الثلاثينيات من عمرها من
أقاصي شمال أوروبا، من
النرويج!!
قال
لي مرافقي: منذ ستة أشهر وهي مع نسائنا، تلبس لباسنا، وتأكل
طعامنا، وترافقنا في أعمالنا، جاءت إلينا وهي تعرف لغتنا القبلية وبعض عاداتنا.
في
بعض
نهارها تداوي المرضى من النساء والأطفال، ومعها صاحبتها تعلمهنَّ الخياطة وبعض
الأعمال اليدوية، وفي أول الليل تجتمع بعض الفتيات
يتجاذبن معها أطراف الحديث،
وتعلمهنَّ قواعد القراءة والكتابة، وقد خصصت لهنَّ بعض الليالي لتعليم الرقص.
أحبها
الناس كبارًا وصغارًا لتواضعها وخدماتها التي لا تنقطع؛ فكم من يتيم مسحت على
رأسه!
وكم
من مريض خففت من ألمه!
عجبت
- والله - أشد العجب من هذه المرأة، فما
الذي
دعاها إلى هذه القفاز النائية وهي على ضلالها؟! وما الذي دفعها لتترك حضارة
أوروبا
ومروجها الخضراء؟! وما الذي قوَّى عزمها على البقاء مع هؤلاء العجزة
المحاويج
وهي في قمة شبابها؟!
تسابقت هذه الأسئلة إلى خاطري، ثم تذكرت ما
كنت
أفكر فيه ليلتي السابقة، لقد شعرتُ بالتعاظم والعُجْب لليلة واحدة قضيتها في
هذا
المكان، أما الآن - وبعد أن رأيت هذه المنصِّرة -
تصاغرت نفسي، وأحسست بمهانتي
وضعفي؛ فهذه المنصِّرة المضلِّلة تقدِّم كل هذا
العمل بكل جَلَدٍ وصبر، وهي على
الباطل، وأما أنا فسرعان ما انتفشتُ لعمل يسير لا أدري: أيكتب في الصالحين أم
لا!!
ولا
أقول هذا إعجابًا بهذه المرأة، أو أنها في محل
القدوة - عياذًا بالله - لكني
أعجب
كيف يصبر هؤلاء القوم على نشر باطلهم، ويعجز بعضنا، أو تصيبه السآمة والملل في
أول
الطريق!
لقد
هزني هذا الموقف هزًّا عظيمًا، ورأيت كم يضحي هؤلاء
الضُّلاَّل لنشر ضلالهم، وأيقنت بأننا - معاشرَ الدعاة - أحوج ما نكون إلى
الإخلاص
والاحتساب، أحوج ما نكون إلى البذل والتضحية، وبقدر انتصارنا على أنفسنا
وإحساسنا
بمسؤوليتنا الدعوية، فإن الله تعالى سيبارك في
أعمالنا. قال الله تعالى: (إِنْ
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ
اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )[النساء:104]. |