نقوش
على جدران بائسة
في
ليلة شاتية نسناسة، هبت شمالية هفهافة، لتدخل في صراع
مرير مع ستائر غرفتي الصغيرة، ثم انتصرت الرياح في عراكها، وانطلقت جذلى بنصرها العظيم، لتصطدم بصفحة وجهي القمحية، ولكن والحق
يُقال، لم أكن أحس أبداً بما يجري حولي، كل الذي في خاطري هذه اللحظة مجرد زوبعة
من الصور، ولكن!! أيّ صور تلك التي تحوم، تسللت تلك الصور لتذكرني بالموقف الذي ما
زالت خمائله تتشبث فيّ، إنه ذلك الموقف الذي حصل لي البارحة عندما عدت إلى بيتنا
من بيت أحد الأصدقاء وعقارب الساعة توشك أن تدق معلنة انتصاف الليل، والنوم قد ألبس
المدينة ثوب السكون، حتى لا تكاد تسمع إلا تضرّع مصلٍّ أو دعاء مبتهل، وبينما أنا
أتخلل الطريق؛ إذ مررت بشارع مهجور، قد ضربت الفاقة فيه خيامها وثبّتت أطنابها،
فغدا ملعباً للفقر ومرتعاً للعوز والحاجة، في ذلك الحي الذي انتشر فيه الظلام، فلم
يعد للنور فيه مكان إلا نوافذ صغيرة في بعض البيوت يتسلل منها، والرهبة تحيط
بالمكان حتى كأن الأشباح والشياطين تقيم فيه، في تلك اللحظة انطلقت صرخة تشق صمت
الليل، في بادئ الأمر خلتها صرخة جانٍّ يخاطب صاحبه، أو لعله رجل يدافع لصاً هجم
عليه، وتدافعت في خاطري الظنون فحثثت خطايَ ساعياً للخروج من تلك القاع البلقع، وأنا أجري اصطدمت بطفل كان يصرخ طالباً النجدة،
أدركني يا عم، أدركني يا عم، فسألته: ماذا بك يا بني؟ فأجاب: أدركني، أبي على
مشارف الموت، ولم يترك لي وقتاً للجواب ثم أمسك بيدي، وانطلق بي
إلى داخل أحد البيوت الآيلة للسقوط، وحين دخلت البيت كنت إخالني
أدخل مكاناً يصلح لأي شيء إلا لسكنى البشر!! وأصعدني
الطفل معه الدرج، وحين كنت أصعد الدرج المتهالك، كنت أظنه يسقط تحتي، إلى أن وصلنا
أخيراً إلى غرفة تنبعث رائحة الموت منها، وما أن دخلت حتى عرفت مصدر تلك الصرخات،
إنها تلك الكومة من العظام القابعة فوق تلك الكومة من الخشب التي تسمى مجازاً
(سريراً)، جلست عند رأسه وسألته عن قصته فقال لي: أنا زيد أعيش مع أخي الأصغر في
هذا المكان منذ خمس سنوات، عندما وقع أبي في حبائل المخدرات، ورمانا مع أمّنا في
هذه الخرابة التي تأنف منها الحشرات، ولم نره بعد ذلك
اليوم، ولعله قضى نحبه بسبب تلك الآفة اللعينة، عشنا بعدها أياماً من الضياع
والحرمان، ووجدتني مضطراً حيال ذلك أن أترك الدراسة لأنفق على أهلي، إلى أن ابتلى
الله تعالى والدتي بالمرض، ويوماً ما دخلت فإذا أمي على سريرها جثة هامدة!! والسبب
دواء عجزت عن شرائه لها، أما أنا فقد أصابني الله منذ أشهر بمرض أقض مضجعي، وأطار عن عيني لذيذ الكرى، ويوماً بعد يوم كان المرض يتمكن
مني شيئاً فشيئاً، وأنا أبحث عن الدواء فلا أجده، فحالتنا كما ترى، والأطباء لا
يأتون إلا لمن يدفع، وها أنا ذا أموت، لأني لا أستطيع أن أدفع قيمة دواء لا يجاوز
الخمسين ريالاً وأنا.. ثم سكت وكان السكوت الذي لا نُطق
بعده!! ناديته: زيد، زيد فلم يجب، فقد أسلم الروح
لبارئها، والتفتّ إلى أخيه فإذا ساخن العبرات تحرق خده، ولا أرى ما هو أشد حرارة
منها إلا دموعاً انهملت من عيني، فخرجت وفي بالي جاشت
خواطر لم يوقفها إلا باب منـزلنا.
تُرى أين الأثرياء الذين تكاد بطونهم تتمزق من كثرة
الطعام من هؤلاء الذين لا يجدون ما يسدّ ريقهم؟! ومن سينقذ
الضحايا الذين ما زالوا يتساقطون، والثمن حفنة دراهم يدفعها أولئك ثمناً لطعام
حيواناتهم.