تصور الطبيعة البشرية من منظور نفسي مقارن

 

 

 

 

 

مصطفى عشوي

الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا

 

 

 

 

 

 

مجلة "إسلامية المعرفة" مجلة فكرية فصلية محكمة يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، السنة الثانية، عدد6، ربيع الآخر 1417- سبتمبر   1996.  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة:

موضوع "الشخصية" من مواضيع علم النفس الحديث، وقد در س هذا الموضوع من طرف عدد كبير من المنظرين السيكولوجيين كما سنرى أدناه. ووضعت تصورات نظرية مختلفة عن خصائص وأبعاد الطبيعة البشرية، وقد انبنت على ذلك تصورات حول سيكولوجية "الشخصية".

 ونظرا للعلاقة الموجودة بين هذه التصورات حول الطبيعة البشرية وأي تصور للشخصية الإنسانية ارتأيت دراسة هذا الموضوع كمقدمة لفهم سيكولوجية الشخصية من منظور مقارن: إسلامي وغربي.

 ويعكس تعدد التصورات والافتراضات في هذا الموضوع حقيقة تعقد موضوع الشخصية من جهة، وصعوبة إخضاعها لتصور نظري موحد، كما يعكس ذلك صعوبة دراسة موضوع الطبيعة البشرية وخصائصها. ولهذا فاننا نجد في علم النفس الحديث عدة تعاريف لمفهوم الشخصية،كما نجد عدة نظريات للشخصية، وعدة تصورات للطبيعة البشرية وخصائصها. وسنورد فيما بعد أهم التصورات عن خصائص الطبيعة البشرية على سبيل الإطلاع والمقارنة وعلاقتها بنظريات الشخصية من منظور سيكولوجي معاصر دون الاهتمام بماهية الطبيعة البشرية من الناحية الفلسفية.

وفي الواقع، فإنما الاختلاف في تحديد هذا المفهوم وفي تحديد أبعاد الشخصية يرجع أيضا إلى اختلاف تصورات مختلف الباحثين والدارسين حول الطبيعة البشرية وخصائصها؛ فمنهم من يعتبر هذه الطبيعة شيئا لا يختلف عن طبيعة الحيوان بل هي امتداد وتطور لهذه الطبيعة ولا شيء أكثر؛ وذلك وفق قوانين النشوء والارتقاء، ومنهم من يرى أن هذه الطبيعة قد كرمها الله سبحانه وتعالى بخصائص ووظائف تختلف اختلافا جذريا عن خصائص الحيوان ووظائفه مثل العقل والتدبر والروح والتعلم والعلم.

سنرى عند استعراض "التصور الإسلامي لهذه الطبيعة مدى اختلاف هذا التصور عن التصورات التي وضعها مختلف علماء السيكولوجيا في الغرب، كما سنلاحظ مدى اختلاف هذه التصورات وتباينها عن بعضها حتى في إطار الثقافة الغربية  نفسها، وإن كان هذا الاختلاف لا ينفي وجود قو اسم مشتركة بين هذه التصورات "الغربية".

لقد كتبت عشرات الكتب حول موضوع الطبيعة البشرية وخاصة باللغات الأجنبية، ولكن أغلبها كانت من منطلق فلسفي أو أخلاقي أو من كليهما، أو من منطلق ديني.

ومن الواضح أن الدراسات التي تناولت هذا الموضوع من الناحية النفسية قليلة جدا حتى في الغرب، وغالبا ما تكون هذه الدراسات تمهيدا لدراسة سيكولوجية الشخصية الإنسانية أو علم النفس الاجتماعي.

- لمإذا لم يهتم السيكولوجيون بالطبيعة البشرية؟

يورد بعض الباحثين مثل رايتسمان (Wrightsman, 1992) أسباب عدم اهتمام السيكولوجيين الغربيين بهذا الموضوع إلا مؤخرا. وتتمثل أهم هذه الأسباب فيما يأتى:

1- كان السيكولوجيون الغربيون يعتقدون بأن تفسير السلوك بمفهوم "الطبيعة البشرية " عملية لا طائل وراءها. وأن عامة الناس هم الذين يعمدون إلى تفسير السلوك بكونه جزءا من الطبيعة البشرية لا غير.

 2 - لم يكن السيكولوجيون الغربيون يهتمون بما يعتبر "عالمية السلوك الاجتماعي" كما تبين ذلك دراسات  علم النفس بين الثقافات (المقارن) ( Cross-cultural psychology ) إلا مؤخرا.

بل إن الاهتمام كان منصبا على دراسة السلوك الاجتماعي في إطار الثقافة الغربية بدلا من دراسة السلوك البشري في إطار الانتماء للجنس البشري.

3 - تركيز الباحثين السيكولوجيين على دراسة علم النفس الاجتماعي التجريبي، وعلى دراسة المفاهيم التي يمكن تحديدها ودراستها دراسة إجرائية (عملية) بدلا من المفاهيم الفضفاضة التي كانت السيكولوجيا الغربية تتحاشى دراستها. وهذا ما جعل البحث المخبري هو السائد في الدراسات النفسية الغربية كجزء هام من الدراسات الامبريقية.

ومهما يكن، فإن الباحثين الغربيين وغيرهم سواء كانوا فلاسفة أم اجتماعيين أم نفسانيين أم مفكرين قد أصبحوا يولون موضوع " الطبيعة البشرية " اهتماما متزايدا. وهذا ما يتجلى من الدراسات العديدة التي كتبت مؤخرا حول هذا الموضوع مثل كتاب Stevenson سنة 1974 في طبعة أولى وسنة 1987 في طبعة ثانية، وكتاب Chaney سنة1990 ، و كتاب Al-Attas في 1990 ، وكتابBuchanan   في1990 ، وكتاب Wrightsman سنة 1992وكتاب Schultz سنة 1994. وقد درس هؤلاء الكتاب موضوع الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية من زوايا مختلفة بعضها فلسفي، وبعضها سيكولوجي أو سوسيولوجي وبعضها الآخر انثروبولوجي وتطوري.

وكتبت أيضا باللغة العربية ومن المنظور الإسلامي بعض الدراسات والكتب المتصلة بهذا الموضوع سواء من منظور فلسفي أم ديني أم أخلاقي أم نفسي أم من منظور علم الإنسان (الانثروبولوجيا). ومن هذه الكتب كتب : العقاد ، بنت الشاطىء سنة1982 ، بركات أحمد 1981، أمير سنة 1984، الفاروقي، 1984، و سيد مرسى سنة 1988، أحمد أكبر سنة 1990 ، و العانى سنة 1995.

- إسهام في فهم الطبيعة البشرية:

 تمثل هذه الدراسة محاولة للإسهام في توضيح الأسس النظرية التي ينبغي أن تقوم عليها عملية فهم الطبيعة البشرية من منظور إسلامي بحيث تشكل هذه الدراسة قاعدة للدراسات النفسية وخاصة لعلم نفس الشخصية من منظور إسلامي إذ  قامت هذه الدراسة على دعامتين :

1 - محاولة فهم الطبيعة البشرية كما جاء ذلك في بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. وسنلاحظ أن هذا المفهوم (الطبيعة البشرية) لم يكن في القرآن الكريم مفهوما مجردا بل مفهوم قريب إلى الأذهان إذ يعتمد على وصف واقعي للإنسان منذ نشأته الأولى (في عالم الغيب) إلى يوم الدين (إلى عالم الغيب)، ومن بدء تشكله فيى الرحم إلى وفاته.

2 - اعتماد منهج مقارن بين المنظور الإسلامي والمنظور الغربي للطبيعة البشرية من خلال تصورات وافتراضات أوردها شولتز (1994) وغيره من الباحثين الغربيين، ومن خلال تصورات أخرى أضفتها للأبعاد المقترحة من طرف شولتز، وغيره من الباحثين.

وقد اعتمدت المنهج المقارن حتى تتبين أوجه التشابه والاختلاف بين التصور الإسلامي الذي أقدمه وتصورات السيكولوجيين الغربيين الذين درسوا موضوع الطبيعة البشرية وما يتصل بها من مواضيع كالسلوك والشخصية.

 وقد اخترت التصورات التي أوردها شولتز عن الطبيعة البشرية لسببين :

-الأول:  يتمثل في طرحه ستة أبعاد تتصل بالطبيعة البشرية؛ وهي تصورات أقرب ما تكون إلى سيكولوجية الشخصية والسلوك بصفة عامة. وقد طرحت هذه التصورات ضمن تصور محوري  يتضمن الموضوع ونقيض الموضوع ولكن ضمن محور متصل وليس ضمن محور منقطع مثل الحرية والجبرية، وتأثير المحيط أو الوراثة في التعلم، وتأثير الماضي أو الحاضر في الشخصية، وغير ذلك من الأبعاد التي سأتعرض لها بالشرح والتفصيل.

-الثاني: قيامه بإيراد مختلف آراء السيكولوجيين الغربيين وتصوراتهم حول هذه الأبعاد مما يسهل علينا عمليتي المراجعة، ومقارنة تصورات السيكولوجيين الغربيين بالتصور الذي أقدمه من منظور إسلامي علما بأن كتاب شولتز هذا في طبعته الخامسة (1994) آخر طبعة غربية بين أيدينا حول سيكولوجية الشخصية؛ أي أن هذا الكتاب مثل بقية كتب الشخصية يجمع بين دفتيه مجمل تصورات السيكولوجيين الغربيين حول الأبعاد المتصلة بسيكولوجية الشخصية والسلوك البشري من خلال نظريات متعددة تم طرح بعضها وتم تداولها منذ ما يقارب قرنا من الزمن مثل تصورات المدرسة التحليلية الكلاسيكية، ومدرسة التحليل النفسي الجديدة والمدرسة السلوكية. وهذا كله إلى جانب نظريات جديدة نسبيا مثل المدرسة الإنسانية ومدرسة السمات ومدرسة التعلم الاجتماعي والمدرسة المعرفية. وقبل استعراض آراء بعض هذه المدارس من منظور مقارن، أود أن أعرض فيما يأتى أهم ملامح الإنسان في القرآن الكريم.

- الإنسان في القرآن الكريم:

تورد الدكتورة عائشة عبد الرحمن (1982) أن لفظ " بشر" قد ورد في القرآن الكريم كاسم جنس في خمسة وثلاثين ( 35 ) موضعا، بينما ورد لفظ " إنسان " في القرآن الكريم في خمسة وستين (65) موضعا.

وحسب بنت الشاطئ فإن معنى لفظ "بشر " غير معنى " إنسان " ؛ فالأول يعنى " ظواهر البشرية وأعراضها المادية " ... بينما يعنى اللفظ الثاني " ... ارتقاء آلي الدرجة التي تؤهله للخلافة في الأرض واحتمال تبعات التكليف وأمانة الإنسان ، لانه المختص بالعلم والبيان والعقل والتمييز، مع مايلابس ذلك كله من تعرض للابتلاء بالخير والشر، وفتنة الغرور بما يحس من قوته وطاقته، وما يزدهيه من الشعور بقدره ومكانته في الدرجة العليا من درجات التطور ومراتب الكائنات ".

وفي الواقع، فإني لا أتفق مع بنت الشاطئ في هذا التمييز؛ ذلك - وكما أشارت هي نفسها إلى ذلك - فإن لفظ "بشر" قد ورد في القرآن الكريم 25 مرة للاشارة إلى بشرية الرسل والأنبياء مع تشابههم فيما هو من ظواهر البشرية وأعراضها المادية بينهم وبين سائر البشر. وقد ورد ذلك في سورة الأنبياء: 2 - 8، وفي سورة ابراهيم: 9 - 11 ، وفي سورة هود: 25 - 28 ، وفي سورة الكهف: 110 ، وغير ذلك من السور مثل:

 (المؤمنون ، الشعراء ، يس ،  وفصلت).

وهناك ملاحظة بالنسبة لعدد وتكرار كلمة "بشر" في القرآن ، فقد حاولت التأكد من الرقم الذي ذكرته بنت الشاطىء ، فوجدت أن الكلمة قد ورد ت في القرآن الكريم 16 مرة فقط للاشارة للجنس البشري  وليس 35 مرة. أما كلمة الناس فقد وردت في القرآن الكريم 182 مرة بينما وردت كلمة "إنسان" بصيغة النكرة مرة واحدة في سورة الإسراء ، آية 13 . أما كلمة "الإنسان" فقد وردت 58 مرة ، وبلغ عدد تكرارها مع اللواصق وحروف العطف 65 مرة كما قالت ذلك بنت الشاطىء، وكما تأكدت من ذلك شخصيا باستعمال الحاسوب.

 وفي الواقع، فان القرآن الكريم كله خطاب موجه للانسان، ومن الصعب حصر الآيات التي تتعلق بالإنسان وترتبط به في الآيات التي ذكرت الإنسان ، أو الناس أو البشر أو القوم فقط. ومن الصعب أيضا اعطاء أية دلالة علمية لهذه الأرقام ماعدا الاشارة إلى أن تكرار مفهوم ما غالبا ما يدل على الإهتمام به أو على أهميته أو على الأهمية والإهتمام به معا.  

 ومع هذا، فقد فاتت بنت الشاطئ أيضا الاشارة إلى أن لفظ " بشر " قد قرن في القرآن الكريم بالنبوة والرسالة. وهل هناك أعلى وأعظم مسؤولية من النبوة والرسالة ؟ و ذلك واضح في سورة الكهف ، آية 110 حيث يقول تعالى : " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ".

ومهما يكن، فإن المتأمل في القرآن الكريم يلاحظ أن تصوير ووصف الإنسان يتصف بالواقعية؛ فالإنسان

 -كما وصف في القرآن الكريم- يتعلم و ينسى، ويأثم ويندم، ويجحد ويشكر، و يجزع ويصبر، ويؤمن ويكفر، و يشقى و يسعد، و يحب المال والبنين، ويضحى بالنفس والنفيس، وغير ذلك من الصفات والخصائص المرتبطة بخلق الإنسان وتكوينه وسلوكه، وسعيه في الحياة الدنيا، ومصيره يوم الدين، كما وصفت النفس بعدة صفات بحسب الأحوال التي تكون عليها: فقد تكون مطمئنة، سوية، راضية، و زكية، و قد تكون لوامة، أمارة بالسوء، موسوسة ( بفتح الواو) ، وخبيثة، وخائبة وغير ذلك من الصفات والأحوال التي تتصف بها النفس الواحدة، والتي تتجلى في سلوك الإنسان الذي تسيطر عليه أحيانا  النفس المطمئنة فيكون وفق ما يبتغيه الله ويرتضيه، كما قد تستحوذ عليه النفس الأمارة بالسوء فيندفع في منحدر إشباع الرغبات والشهوات. ولكن النفس اللوامة بالمرصاد؛ إذ تدفعه هذه الأخيرة للرجوع إلى حالة النفس المطمئنة؛ وذلك بالإستغفار والتوبة والعمل الصالح، وهكذا دواليك حيث يستمر الإنسان في صراع مع النفس ومجاهدة لها ليرتقى بها إلى درجات الإيمان العليا، وقمم الإحسان العظمى، أو يستسلم وينهزم ليتدحرج إلى أسفل الدركات.

وباختصار، فان الإنسان قد وصف في القرآن الكريم وصف واقعيا يتميز بذكر  الصفات الإيجابية والصفات السلبية التي تميز ه عن باقى الكائنات في هذا الكون العظيم. ولكن هذا الوصف ليس وصفا نمطيا تبسيطيا بل إن المتتبع لهذا الوصف في القرآن الكريم يلاحظ مدى تعقد الطبيعة البشرية، وصعوبة إخضاعها للدراسة المبتسرة والمختصرة الشيء الذي يستدعى تضافر جهود العلماء والمختصين في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ومايرتبط بها من علوم طبيعية وبيولوجية لفهم هذا الإنسان فهما صحيحا وترقية مستواه في مختلف المجالات الروحية والعقلية والمادية.

ورغم هذه الصعوبة فإني سأحاول فيما يلي  إيراد تصنيف مختصر ومبسط لهذا الوصف حسب فهمي لآيات الذكر الحكيم، وبعض الأحاديث الشريفة على أن يطور هذا الفهم ويغنى بمختلف التصورات والدراسات والبحوث الإمبريقية التي ينبغي أن تدعم التصورات النظرية أو تصححها و تفتح أمامها آفاقا جديدة للفهم والتحليل والإستنتاج.

والمتأمل لهذا الوصف يلاحظ أن الإنسان قد وصف من طرف الخالق في كتابه العزيز وصفا دقيقا وواقعيا؛ فهو  أي الإنسان -إذا وصف وصفا إيجابيا- : خليفة في الأرض، صاحب بيان وعلم وحرية، وهو مفضل على العالمين  بالعقل والبيان، و سجدت له الملائكة بأمر من الله تعالى، وقد خلقه الله تعالى في أحسن تقويم. وهو -إذا وصف سلبيا- : ضعيف، ظلوم، جهول، هلوع، كنود،  عجول، غيور، مفسد في الأرض، وسافك للدماء، طاغ في حالة الاستغناء، قتور، معرض في حالة النعمة، يئوس، وقنوط إذا أصابه الشر، فاجر وكافر بأنعم الله.

وقد وصف القرآن الكريم مختلف أبعاد الإنسان الجسمية والعقلية والوجدانية،كما أشار إلى مجالات نشاطه، والتزاماته نحو ربه، ونفسه، وجماعته، ومجتمعه، ونحو أمته. وينبغي أن أشير هنا أن وصف القرآن الكريم للطبيعة البشرية ذو مستويين:

1- مستوى طبيعي-عام يشترك فيه كل البشر بغض النظر عن أممهم وأديانهم وثقافاتهم .

2- مستوى إيماني-عملي يسمو فيه البشر عن بعضهم بعضا ويتفاوتون فيما بينهم بالإيمان والعمل الصالح واتباع سنن الله في الكون .

ومن الواضح، أن موضوع هذه الدراسة هو المستوى الأول، أما المستوى الثاني فيحتاج إلى دراسات متعمقة أخرى.

ووفق هذا التصور ، فانه يمكن اعتبار القرآن الكريم مصدرا لاستخلاص تصورات  -قائمة على الفهم البشري- حسب المستويات التالية:

أ - المستوى الأول:  تصورات شاملة لتفسير الكون و موقع الإنسان في هذا الكون؛ وذلك في إطار عملية تفاعلية تكاملية  تنتقل من عالم الشهادة إلى عالم الشهود، ومن عالم الشهود إلى عالم الشهادة.

ب - المستوى الثاني:  تصورات أقل شمولية لتفسير الحياة على الأرض، وسنن التاريخ والأمم والمجتمعات مهما كانت هذه المجتمعات والأمم والحضارات التي قامت فيها.

ج - المستوى الثالث: تصورات متوسطة المدى لتفسير النظم والمنظمات التي ينشئها الإنسان (نظام الحكم ، نظام الأسرة ، نظام العمل وغير ذلك من النظم ) ضمن إطار حضاري معين وضمن نسق ديني محدد .

د- المستوى الرابع:  تصورات صغيرة لتفسير السلوك الفردي، والشخصية، وسلوك الفرد مع الآخرين في إطار جماعي أو غير جماعي.

وفي إطار هذا المستوى يمكن أن نميز بين دراسة الإنسان في صفاته البشرية -الفطرية وتفاعل هذه الصفات مع عوامل بيئية أخرى، وبين الإنسان المؤمن بالله الذي يتصف بصفات أخلاقية وسلوكية قائمة على العقيدة الدينية. كما يمكن أن نقارن بين سلوك المؤمن والمنافق و الكافر، وغير ذلك من التصنيفات التي قد ترتبط بأنماط سلوكية معينة.

وحسب هذا النموذج، فانه ينبغي الخروج من النظرة الشمولية للظواهر المختلفة، والقيام بدراسات متعمقة  لفهم عالم الشهادة (الواقع) . وهذا ما ينقص كثيرا من الدراسات الإسلامية المعاصرة  -حسب رأيي- إذ بقيت تجتر المقولات المرتبطة بما "يجب أن تكون الأمور عليه" أو "ما ينبغي أن تكون عليه" ؛ وهذا  موقف أخلاقي أو فلسفي وإن كان ضروريا بالفعل إلا أنه غير كاف لفهم واقع ما كما هو؛ أي بصفة موضوعية قدر الإمكان، بل إن إصلاح واقع ما و الانتقال به إلى ما "ينبغي أن يكون عليه" يتطلب فهمه أولا .

 ووفق هذا النموذج، فان محاولة فهم "الطبيعة البشرية من منظور إسلامي" يندرج في إطار  فهم هذه المستويات المشار إليها أعلاه وبصفة أخص المستوى الرابع.

وعلى الباحث المسلم أن يفهم هذه المستويات والأبعاد في مختلف مجالات الحياة والميادين العلمية. وحسب اعتقادي فإن هذا الفهم ضروري قبل الانتقال إلى الناحية التطبيقية؛ إذ لا يمكن أن ننطلق إلى الجانب التطبيقي دون وضوح الجانب النظري في أذهاننا. ولا يخفي على أي مشتغل بالبحث العلمي مدى ارتباط النظرية بالتطبيق وهذا الأخير بالنظرية إلى حد جعل كورت ليفين يقول: " ليس هناك أي شيء تطبيقي أحسن من نظرية جيدة". وقد جاء في هذا المعنى في الأثر "من عمل بما يعلم علمه الله ما لم يكن يعلم".

وقبل أن أتعرض لهذه الأبعاد والخصائص كما جاءت في القرآن الكريم أفضل إيراد تصور الطبيعة البشرية في إطار علم النفس بالغرب؛ إذ أن الهدف الأساسي لهذه الدراسة هو إجراء المقارنة بين تصورات السيكولوجيين الغربيين للطبيعة البشرية وللشخصية مع التصور الإسلامي للطبيعة البشرية كما أقدمه في هذه الدراسة، على أن تتلو هذه الدراسة دراسة أخرى توضح معالم الشخصية من منظور إسلامي.

وأود أن أوضح من الآن أن هذه المعالم لن تكون إلا نظرية؛ أي عبارة عن مبادئ وأسس نظرية؛ ذلك لأن الانتقال إلى الجانب التطبيقي يعنى إما دراسة نفسية (سلوك) الناس عامة ونفسية (سلوك) المسلمين خاصة كما هو (السلوك) في الواقع بصفة موضوعية؛ أو الانتقال إلى عملية التجريب (المخبري أو الميداني أو كليهما)  لبعض التصورات النفسية الإسلامية؛ وإخضاعها للتحليل الكمي والكيفي.

- الشخصية من المنظور الغربي:

طرح شولتز (1994) في كتابه "نظريات الشخصية" عدة أسئلة تتعلق بطبيعة "الشخصية البشرية"، مبتدئا كتابه بالتأكيد على عدم اتفاق السيكولوجيين الغربيين على نظرية واحدة للشخصية. ولذا فقد عنون كتابه "نظريات الشخصية" بدلا من وضع عنوان "نظرية الشخصية " مثلا. وقد أكد شولتز بأن تصور الطبيعة البشرية الذي يقدمه منظر ما يعتبر أهم جانب في أية نظرية حول الشخصية. وإني شخصيا أتفق مع هذا التأكيد؛ إذ لا يمكن أن تقدم نظرية في "الشخصية" إذا لم تفهم خصائص الطبيعة البشرية ولو فهما جزئيا. وبقدر ما يكون هذا الفهم دقيقا وشاملا بقدر ما تكون النظرية دقيقة وشاملة، والعكس صحيح.

أورد شولتز في كتابه المذكور 18 نظرية حاول جمعها في تسع فئات أو اتجاهات كبرى حيث بين أن لكل اتجاه نظري من هذه الاتجاهات افتراضاته، طرق بحثه، وتحديده  لمفهوم الشخصية وتصوره لأبعاد الشخصية وخصائص الطبيعة البشرية. وستكون تصورات هذه  الاتجاهات نحو الطبيعة البشرية محور المقارنة فيما بعد .

وفي الواقع، فإن إيراد نظريات الشخصية الغربية المختلفة ليس حكرا على شولتز بل يمكن أن توجد هذه النظريات في أي كتاب للشخصية وأحيانا في أي كتاب في علم النفس العام.

قدم شولتز عدة حجج لضرورة دراسة موضوع الشخصية، ومن أهم هذه الحجج تأكيده على أن أهم المشكلات التي  تعانيها البشرية حاليا كالمجاعة والتلوث والجريمة والإدمان سببها "البشر أنفسهم".

ومما استشهد به شولتز - في هذا المجال - قول ماسلو (1957) وهو صاحب نظرية في الشخصية ومن المدافعين عن "إنسانية الإنسان" ومفاد قوله هو : " إذا طورنا الطبيعة البشرية فإننا نطور كل شيء، إذ بذلك نزيل أهم أسباب الفوضى في العالم"؛ فحسب ماسلو فإن الفوضى التي يعانيها الإنسان في هذا العصر راجعة إلى العجز عن تطوير شخصيته وترقية سلوكه.

أما شولتز نفسه فيؤكد : "إنه بالفهم الصحيح، فقط، لأنفسنا وللذين من حولنا نستطيع التوافق أحسن مع مشكلات الحياة العصرية، وأن هذا أهم من إنتاج أسلحة جديدة أو تحقيق انتصارات جديدة في ميدان التكنولوجيا. وقد بين التاريخ عدة مرات بأن التطور التكنولوجي قد يؤدى إلى عواقب خطيرة عندما يستعمل من طرف أشخاص بخلاء وأنانيين وجبناء وغليظي القلب".

وبالفعل، فقد بينت الحروب الكبرى التي نشبت في هذا القرن -ابتداء بالحرب العالمية الأولى وانتهاء بحرب الخليج وما بينهما من ثورات وحروب وانتفاضات مثل الثورة التحريرية في الجزائر وحرب الفيتنام والحروب بين العرب واليهود وغير ذلك من الحروب التي اندلعت وما تزال تندلع في مختلف أرجاء العالم- كيف يتصرف الإنسان المغرور والظالم في التكنولوجيا الحربية ويسخرها لاستعباد الآخرين وقهرهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، وحرمانهم من خيراتهم والاعتداء على شخصياتهم وحرياتهم وحرماتهم.

وحيث إن أعظم أمل للبشرية يتمثل في تحسين فهمها لنفسها لتجاوز مشكلاتها العويصة التي تواجهها في هذا القرن والقرن الذي يليه بل وفي المستقبل على الإطلاق مثل المجاعة والبطالة والانحرافات الأخلاقية والسلوكية المختلفة المنافية للفطرة والعقل والشرائع السماوية، فإن دراسة الشخصية وباقي فروع علم النفس - إذا بنيت على أسس سليمة-  قد تكون أهم إسهام لعلم النفس في إنقاذ البشرية من هذه المشكلات.

وعليه، فإن لدراسة موضوع الطبيعة البشرية اعتمادا على المنهج  المقارن أهمية قصوى من الناحيتين: النظرية والتطبيقية، وذلك لارتباط هذا الموضوع بموضوع "الشخصية". ولا ينبغي أن يبقى هذا المجال حكرا على النظريات الغربية التي تغفل التجارب الإنسانية في إطار الثقافات الأخرى؛ أي الثقافات التي لا تقوم على الأصول اليهودية-المسيحية.

فهل يستطيع علم النفس عامة و علم النفس في الغرب خاصة أن يسهم في إنقاذ البشرية من الأخطار التي تتعرض لها حاليا أو التي قد تتعرض لها في المستقبل في هذه الحياة الدنيا؟

 وهل لعلم النفس عامة و للاتجاه الإسلامي في علم النفس خاصة أي دور في إنقاذ البشرية في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟

هذان سؤالان لا أزعم بأنني سأجيب عنهما، بل الغرض من طرحهما تبيان أهمية علم النفس في فهم الطبيعة البشرية، وفي فهم الشخصية وما يرتبط بها من سلوك بشري، وبالتالي في إمكانية إسهام هذا الفهم في حل بعض مشكلات البشرية. ولا ينبغي الزعم أبدا -خاصة من منظور إسلامي- أن علم النفس قد يكون بديلا للعلوم الشرعية وغيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية التي يمكن أن تسهم بدورها في إنقاذ البشرية؛ ولعل أحسن إطار لتحقيق هذا الهدف هو الإطار الذي تتفاعل فيه هذه العلوم وتتكامل من حيث الموضوع والمنهج دون أن يهيمن علم ما على بقية العلوم من حيث الموضوع والمنهج.

وعليه، فقد ارتأيت استعراض تصور إسلامي للطبيعة البشرية من خلال أبعاد وخصائص الطبيعة البشرية التي اقترحها شولتز وغيره من السيكولوجيين المعاصرين، ومن خلال أبعاد إضافية اقترحتها كاجتهاد في هذا الميدان؛ مع التأكيد على أن هذا التصور نسبي تماما لأنه يتعلق باجتهاد بشري. وإني أؤكد هذه الفكرة بقوة حتى يبقى الباب دائما مفتوحا على مصراعيه للإسهام في هذا الميدان دون كلل أو ملل، ودون أن يدعى أحد أنه ما ترك للآخرين ما يسهمون به!

ولعل المتأمل في الإنتاج  العلمي الغزير بالغرب في هذا الميدان وغيره يلاحظ مدى صبر العلماء والباحثين على الدراسة والبحث ومحاولاتهم الدائبة لإضافة شيء جديد للعلم ولو كان ضئيلا. وبطبيعة الحال، فإن أية إضافة جدية للعلم تكون بالإطلاع أولا على آخر ما وصل إليه علم ما حتى تكون الإضافة أو الاختلاف مع ما هو كائن على بينة ودراية.

وبخصوص تصورات السيكولوجيين الغربيين حول الطبيعة البشرية، فإن شولتز نفسه قد أكد في كتابه المشار إليه أعلاه أن النظريات السيكولوجية التي وضعت حول الشخصية قد اختلفت فيما بينها في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالأبعاد الآتية، ومدى تأثيرها في الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية؛ أي أن السيكولوجيين قد اختلفوا حول تأثير هذه الأبعاد في السلوك والشخصية؛ فبعضهم يولى مثلا أهمية أكبر لماضي الفرد (مرحلة الطفولة) بينما يعطى بعضهم -كما سنرى- أهمية أكبر لحاضر الفرد ومستقبله. وبالفعل، فإن الاختلاف حول هذه الأبعاد ومدى تأثير كل واحد منها هو الذي يميز كل نظرية عن أخرى حتى في إطار الثقافة السيكولوجية الغربية نفسها.

وفيما يأتي الأبعاد التي اختلف السيكولوجيون الغربيون في مدى تأثيرها في السلوك والشخصية:

- الحرية أم الحتمية ؟

- الوراثة أم البيئة (المحيط) ؟

- الماضي أم الحاضر ؟

- التفرد، التمايز ( uniqueness ) أم العالمية ( Universality ) ؟

- التوازن أم النمو ؟

- التفاؤل أم التشاؤم ؟

لقد ارتأيت تقديم تصور إسلامي لهذه الأبعاد وفق فهمي لبعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة  مع إضافة أبعاد أخرى غفل عنها شولتز وغيره من الباحثين السيكولوجيين وخاصة الغربيين منهم -حسب إطلاعي المتواضع- بحيث تشكل هذه الأبعاد والتصورات المرتبطة بها من منظور مقارن (من منظور إسلامي وغربي) -كما سيأتي ذلك فيما بعد- إضافة للفكر البشري في تصور خصائص الطبيعة البشرية مما قد يشكل قاعدة أحسن لفهم السلوك البشري والشخصية الإنسانية. وأكرر أن هذا العمل عبارة عن عمل قاعدي يعتمد على تصور نظري قابل للإثراء والتعديل والتغيير والتطوير مثل أي مجهود بشري بل هو أحوج ما يكون للإثراء والتصحيح والتطوير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خصائص الطبيعة البشرية من منظور إسلامي

 

لقد تعمدت وضع العنوان بهذا الشكل "خصائص الطبيعة البشرية من منظور إسلامي" وليس "خصائص الطبيعة البشرية من المنظور الإسلامي" حتى أبين أن هذا التصور نفسه عبارة عن تصور نسبي يتعلق بفهمي للنصوص وحتى لا أغلق باب الاجتهاد في هذا المجال الحيوي الذي ينبغي تكاتف الجهود فيه مثل باقي الميادين. وبودي أن أشير إلى أن التصور الإسلامي للطبيعة البشرية وخصائصها ولشخصية الإنسان تصور حيوي شامل من الصعب اختزاله. وكل عمليات الاختزال التي نقوم بها من خلال وضع تصورات فرعية لهذا التصور الشامل إنما بهدف تبسيطه وتقريبه للأفهام، وبهدف اعتماده أرضية أو إطارا نظريا لعمليات التنظير والبحث العلمي في مختلف الميادين العلمية.

وينبغي أن أشير إلى أن المقارنة هنا من باب مقارنة النسبي (موقف السيكولوجيين الغربيين) بالنسبي (فهمي الإسلامي) ، وليس من باب مقارنة المطلق بالنسبي، وهذا رغم معرفتنا بأن السيكولوجيين الغربيين ينطلقون في الأصل من خلفية دينية أو فلسفية غالبا ما يخفونها رغم تأثرهم بها بصفة شعورية أو لاشعورية.

و مما يستحسن التأكيد عليه هو أن هذا التصور النظري الذي ينطلق من فهم النصوص الإسلامية ينبغي أن يدعم ببحوث امبريقية باستعمال عينات من المسلمين مع مراعاة العمر والمستويات التربوية (التعليمية) والجنس وغير ذلك من المتغيرات الأساسية؛ وذلك لدراسة العلاقة بين التصورات النظرية والسلوك العملي الذي ينبثق أصلا من هذا التصور النظري بشكل أو بآخر. وإلى جانب هذا التأكيد ينبغي أن نهتم بالجوانب الآتية :  

أولا : لوضع تصور إسلامي حول خصائص الطبيعة البشرية وحول                                                الشخصية كمفهوم نفسي حديث ينبغي توضيح الموقف الإسلامي حول ثلاثة  أبعاد كبرى تتفرع عنها بطبيعة الحال أبعاد فرعية، وهذه الأبعاد الكبرى هي :

1- خلق الإنسان: وتتفرع عن هذا البعد عملية الخلق الأولى لآدم ونفخ الروح فيه. ونكتفي في هذا المجال -حسب رأيي- بما أخبرنا به القرآن الكريم إذ الآيات في هذا المجال واضحة جدا. وينبغي اتخاذها قاعدة لفهم أساس خلق البشر الذي خلق أصلا في أحسن تقويم: جسما وروحا وعقلا.

2- حياة الإنسان ( في الحياة الدنيا): وتتفرع عن هذا البعد كل الأبعاد المتعلقة :

ا- بخلق الإنسان من نطفة أمشاج ( البعد الحيوي أو البيولوجي ).

ب- بنشاطات الإنسان في كل المستويات الفردية والجماعية والمجتمعية.

ج- بنشاطات الإنسان في كل الميادين الروحية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الميادين.

 وهذا البعد المتعلق بحياة الإنسان -على الأرض- له بعدان فرعيان كبيران هما:

ا- بعد العبادات : ومجال الاجتهاد فيه محدود نسبيا إلا فيما يتعلق بالفروع.

ب- بعد المعاملات : وباب الاجتهاد فيه مفتوح على مصراعيه إلا فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية.

3- مصير الإنسان: ونعنى به مصير الإنسان في الدار الآخرة، ونكتفي في هذا المجال بما أخبرنا به القرآن الكريم ، ولا مجال للاجتهاد في هذا المجال، وصرف الجهود الكبيرة فيه. ولاشك، أن "مصير الإنسان" يشكل متغيرا مؤثرا في سلوك المسلم أو أي شخص يؤمن به. وبناء عليه، فانه متغير جدير بالاعتبار  وإن كان من الصعب دراسته حاليا دراسة موضوعية. وسأعود إلى هذا الموضوع عندما سأتحدث عن الخلود.

ثانيا : تنبغي دراسة الإنسان من المنظور الإسلامي من خلال ثلاثة أبعاد أخرى ترتبط بكل واحد من الأبعاد المذكورة أعلاه ارتباطا وثيقا؛ بل قد تؤثر فيها أو تتأثر بها؛ وإن كانت العلاقة بين هذه الأبعاد ليست بالضرورة علاقة سببية بل قد تكون علاقة ارتباطية بالمفهوم الإحصائي للكلمة.

 وهذه الأبعاد هي: البعد الروحي، البعد الفيزيائي -البيولوجي، البعد العقلي، البعد الانفعالي، والبعد السلوكي. ورغم الارتباط الوثيق بين هذه الأبعاد -ولاشك- لأنها تجتمع لتكون شخصية واحدة إلا أننا لا ندرى بالضبط كيف يؤثر كل جانب في الجانب الآخر أو في الجوانب الأخرى، ولا ندرى فيما إذا كان جانب ما أكثر تأثيرا من بقية الجوانب وإن كانت الدراسات النفسية الحديثة قد بدأت ترتاد ميادين جديدة مثل البحوث الخاصة بتأثير الجانب الانفعالي في الجانب العقلي والعكس، وبالعلاقة بين الجوانب العقلية والجوانب السلوكية مثل موضوع الفكر واللغة. وقد تم التعرض إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل.

   ألفت كتب كثيرة عن "الإنسان" من منظور إسلامي، ولكن أغلب هذه الكتب قد ألفت انطلاقا من تصورات فلسفية أو انطلاقا من النصوص (القرآن والحديث) حول الإنسان بصفة عامة، ولم تحاول هذه الدراسات وضع تصور إسلامي للشخصية من منظور نفسي. والاستثناء لهذه الملاحظة -حسب إطلاعي-هو كتاب "الشخصية الإنسانية في الفكر الإسلامي" للدكتور نزار العاني (1995) الذي حاول تتبع تصورات العلماء المسلمين -في التراث- للشخصية الإنسانية. ولكن هذا الكتاب لم يتعرض لتصور الطبيعة البشرية وخصائصها كما جاءت في القرآن الكريم والحديث الشريف من خلال نموذج محدد، بل لم يكن هدف الكتاب -كما أوضح ذلك مؤلفه- هو وضع هذا التصور.

وبطبيعة الحال، فان أية محاولة لتأصيل علم النفس لا ينبغي أن تكون بمعزل عن وضع تصور نظري لخصائص الطبيعة البشرية ولخصائص "الشخصية" ؛ ذلك لأن موضوع الشخصية قد أصبح من مواضيع علم النفس العام إذ لا يخلو أي كتاب في علم النفس العام منه كما أنه قد أصبح تخصصا في حد ذاته .

ما هو التصور الذي يمكن أااااأأأأأأأأأاان ن نقتبسه من القرآن والحديث عن خصائص الطبيعة البشرية وأبعاد الشخصية ؟

ينبغي أن أشير أولا أن القرآن كتاب هداية وليس كتاب تخصص علمي معين بل إن القرآن عبارة عن إطار عام يمكن أن نأخذ منه قبسات لكل المواضيع دون أن يعفينا ذلك من ضرورة بذل الجهد والاجتهاد في مختلف الميادين. وثانيا، فان القرآن ككتاب هداية وعلم لا يمكن أن ينضب معينه،كما لا يمكن لأي باحث الادعاء بأن فهمه هو الفهم الصحيح والوحيد لهذا الكتاب.

وعليه، فان ما أورده فيما يلي عبارة عن فهمي -لا غير- للنصوص في ضوء ثقافتي الإسلامية و  تخصصي في علم النفس.

أولا: تبقى أبعاد الشخصية أو خصائص الطبيعة البشرية التي أوردها شولتز والمذكورة أعلاه  ناقصة دون إضافة أبعاد أخرى إليها مثل البعد الروحي  إلى جانب البعد المادي والخلود بدلا من العدم والحياة الدنيا إلى جانب حياة الآخرة والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة .

ثانيا : قد تلتقي النظرة الإسلامية لأبعاد أو خصائص الطبيعة البشرية مع بعض التصورات النظرية النفسية -التي أوردها شولتز- في هذا المجال كما قد تختلف وقد تتناقض مع بعضها الآخر.

ثالثا: إن النظرة الإسلامية للطبيعة البشرية تظل تصورا نظريا منطلقا من النصوص ينبغي أن يدعم بتصورات منطلقة من الواقع والنص في نفس الوقت ؛ ذلك لأن الدراسات النفسية هي دراسات امبريقية أساسا وإن كانت تتغذى من تصورات فلسفية ودينية غالبا ما تشكل خلفية غير بارزة لهذه الدراسات.

 

 

 

 الطبيعة البشرية من منظور مقارن

 

لتوضيح الطبيعة البشرية من منظور مقارن ينبغي أن أطرح الأسئلة الآتية، ملاحظا أن بعض هذه الأسئلة كان قد طرحها شولتز في كتابه المشار إليه أعلاه، بينما بعض هذه الأسئلة لم يتعرض لها شولتز ولا غيره من السيكولوجيين الغربيين أبدا. وقد أشرت أعلاه إلى القضايا التي طرحها وناقشها شولتز في كتابه المشار إليه. ومهما يكن، فإنني أنبه القارئ بأنني قد اعتمدت على كتاب شولتز في إيراد آراء مختلف السيكولوجيين حول مواضيع النقاش والمقارنة في هذا المقال.

وبودي أن أنبه أن المقارنة هنا بين التصور الإسلامي -كما أفهمه- والتصورات الغربية للطبيعة البشرية هو من باب مقارنة فهمي النسبي من منطلق إسلامي بالفهم النسبي للسيكولوجيين الغربيين للطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية من منطلقاتهم الفلسفية وخلفياتهم الدينية : المسيحية واليهودية، وليس من باب مقارنة المطلق بالنسبي والعلم الرباني بالاجتهاد الإنساني .

وفيما يلي بعض القضايا الأساسية التي أود أن أقارن فيها مواقف السيكولوجيين الغربيين حول خصائص الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية مع الموقف الإسلامي كما أفهمه من خلال القرآن الكريم أساسا، ومن خلال بعض الأحاديث الشريفة على أن أوسع هذه الدراسة فيما بعد لتصبح مرجعا أساسيا في محاولة فهم موضوع الطبيعة البشرية وخصائصها، والشخصية الإنسانية وأبعادها من منظور نفسي مقارن؛ وذلك بالرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف بالإضافة إلى الفكر الإسلامي، وبالرجوع أيضا إلى المصادر الأساسية للفكر الغربي التي قامت عليها التصورات السيكولوجية حول خصائص الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية :

1- هل الإنسان  مطلق الإرادة في الاعتقاد والرأي والسلوك أم مجبر ؟

2 - هل الإنسان خالد أم مصيره العدم ؟

3 - هل الإنسان ذو أبعاد متعددة (مادية-روحية) أم ذو بعد واحد (مادي فقط) ؟

4 - هل الإنسان ذو طبيعة خيرة مطلقة أم ذو طبيعة شريرة مطلقة أم أن طبيعته تتجاذبها قوى الخير  والشر  معا ؟

5 - هل سلوك الإنسان مبني على النيات والأعمال أم على النيات فقط أم على الأعمال فقط ؟

6 -هل ماضي الإنسان أكثر تأثيرا في سلوكه أم حاضره أم مستقبله أم كل ذلك ؟

7 - هل التفاؤل أساس الطبيعة البشرية أم التشاؤم ؟

8 - هل يسعى الإنسان إلى تحقيق التوازن أم هو في نمو مستمر ؟

9 - هل المحيط أو البيئة ( التعلم ) أقوى تأثيرا في سلوك الإنسان أم الوراثة ؟

10- هل كل إنسان متفرد بخصائصه وشخصيته أم أن هناك عالمية وشمولية في خصائص طبيعته البشرية وأبعاد شخصيته ؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة أساسية في تصور نموذج للطبيعة البشرية من منظور إسلامي. وعليه، فإني أبدأ بالجواب عن سؤال تلو الآخر  مبينا هذا التصور مع إجراء مقارنات بينه وبين تصورات أخرى في إطار علم النفس الحديث وخاصة في إطار نظريات الشخصية الأساسية التي أوردها شولتز في كتابه نظريات الشخصية (1994) حيث سأعتمد على هذا الكتاب في إيراد مختلف التصورات التي تمثل أهم النظريات النفسية في ميدان "سيكولوجية الشخصية " وهي : التحليلية بفروعها المختلفة، السلوكية، السمات، الإنسانية، والتعلم الاجتماعي مع الإشارة إلى أن هذه النظريات موجودة في أغلب كتب علم النفس العام و في كل كتب علم نفس الشخصية الحديثة.

1- الحرية أم الجبرية ؟

لقد خلق الله آدم في أحسن تقويم وصوره فأحسن تصويره وعدله، وزوده بالعقل وكرمه على كثير ممن خلق وفضله تفضيلا، وعلمه ما لم يكن يعلم ( الأسماء )، وأعطاه الحرية المطلقة في الجنة بشرط واحد؛ وهو عدم الأكل من الشجرة ولكن آدم فشل في الاختبار. ولعل هدف هذا الاختبار هو إفهام آدم أن علمه محدود، وأنه عرضة للنسيان وأنه عرضة للافتتان ؛ وذلك لكيلا يغتر بسجود الملائكة له.

وإذا كان الإنسان محدود العلم فلا بد أن يكون محدود الحرية، وإذا كان محدود الحرية فلابد أن يكون محدود العلم أيضا. ومجرد وضع شرط واحد لآدم في الجنة دليل على أن حريته كانت ذات حدود، كما أن مجرد نسيانه وأكله من الشجرة دليل على أن علمه محدود أيضا. وعمليا، فإنه لا يمكن تصور مفهوم الحرية بدون حدود؛ إذ بالأضداد تتمايز الأشياء.

لقد عولج موضوع الحرية والجبرية في إطار علم الكلام واختلفت الفرق الإسلامية حول الموضوع اختلافا كبيرا إلى حد التناقض، فعلى من يريد التفصيل في الموضوع أن يرجع إلى أمهات الكتب في هذا المجال.

أما في هذا المقام فيكفي أن أؤكد أن استقراء القرآن الكريم يوضح لنا أن الحرية مقترنة بتحمل تبعاتها أو المسؤولية التي تنبني عليها ، وأن الإنسان وإن كان حرا  في الاختيار بين الإيمان والكفر إلا أنه يتحمل تبعات اختياره، كما أنه حر في سلوكه ويتحمل تبعات سلوكه الاختياري.

 وفي إطار هذا المعنى،  يقول الله تعالى : " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " ( الكهف: 29 ) .

إن الإيمان في المفهوم الإسلامي -كما تم توضيح ذلك- مرتبط بالسلوك ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ ولذا فان كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإيمان مرتبطة بالحث على العمل الصالح، كما أن هناك عدة أحاديث تقرن بين الإيمان والعمل، وبين الدين والمعاملة مثل حديث: الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان (رواه ابن ماجه) ، وحديث : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (رواه الدارمي) ، وحديث : "... أي الإيمان أفضل قال خلق حسن" ( رواه أحمد).

واعتمادا على معنى الحديث الشريف "الإيمان يزيد وينقص" ؛ فانه يمكن قياس الإيمان؛ وقياس الإيمان يكون بقياس  مظاهره وظواهره ( السلوك ) لا غير؛ إذ أن الجانب الداخلي (السريرة) للإيمان لا يعلمه إلا الله وصاحبه. وفي هذا المعنى يقول تعالى : "...والله أعلم بإيمانكم .." (النساء:25). ويقول تعالى : "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ..." (سورة الممتحنة : 10). وفي هذه الآية الأخيرة إشارة غير مباشرة إلى إمكانية امتحان إيمان الشخص، والحكم عليه من خلال الامتحان، وفيه إشارة ضمنية إلى العمليات النفسية العقلية والوجدانية التي لا تنكشف إلا بالدراسة المتعمقة القائمة على الامتحان.

وعليه، فان مفهوم السلوك الذي نعنيه هنا ليس السلوك الظاهري القابل للملاحظة المباشرة فقط بل نعنى به أيضا كل الجوانب العقلية والوجدانية والروحية التي من الممكن دراستها دراسة منظمة والوصول إلى نتيجة علمية بناء على تلك الدراسة. وهذا التحديد مبني على افتراض مفاده أن السلوك الظاهري -بصفة عامة- عبارة عن انعكاس للعمليات الداخلية العقلية والوجدانية والروحية.

إن كلا من الإيمان و الكفر سلوك مرتبط في الواقع بحرية العقل وحرية الإرادة؛ إذ لا يمكن أن نتحدث عن حرية الإرادة دون القدرة على الاختيار بين الإيمان والكفر بالمعنى العام للكلمتين وبالمعنى الديني الاعتقادي لهما أيضا. ولا يمكن الحديث عن المسؤولية دون حرية الإرادة والعقل، وحرية التصرف والسلوك. ولذا رفع القلم عن ثلاث -كما جاء في الحديث الشريف-: عن الصبي حتى يحلم، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق.

ولربما هذه الحرية في التصرف والسلوك ابتداء بالإيمان وانتهاء بالكفر وما بينهما من سلوك إيجابي وسلبي ( دون إصدار حكم قيمي مطلق )  هو الذي يوضح لنا لمإذا وصف القرآن الكريم الإنسان بصفات متباينة؛ بعضها إيجابي وبعضها سلبي.

وعليه، فإذا كان الإنسان حرا فانه يتحمل تبعا لذلك مسؤولية حريته؛ فلا يمكن أن تكون هناك مسؤولية دون حرية، ولا حرية دون مسؤولية. ورغم هذه الحرية المطلقة في الاعتقاد والسلوك فان القرآن الكريم يبين للانسان بكل وضوح أن قدراته محدودة وبالتالي فان حريته محدودة أيضا في بعض المجالات؛ فالإنسان لا يختار متى يولد (... حملته أمه كرها ووضعته كرها ...) ، ولا يختار متى وأين يموت: (.. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ، (لكل أجل كتاب ...) و ( .. وما تدرى نفس بأي أرض تموت).

وفي الوقت الذي نلاحظ فيه دعوة القرآن الكريم لاعتماد الأسباب وسنن الله في المجتمع والكون بصفة عامة، فان الإنسان المسلم يعتقد اعتقادا جازما أن هناك مسبب الأسباب الذي لا سبب له وهو الله ؛ وهو المتحكم في كل شيء، وهو المتوكل عليه، وإليه ترجع الأمور، ومشيئته سبقت كل شيء. ولذا فان سلوك المسلم لا ينبغي أن يكون بمعزل عن هذا التصور وإن كان عليه الأخذ بالأسباب. وفي هذا المعنى  يقول تعالى : "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا  أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت  وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا " (الكهف : 23-24).

فما هو موقف النظريات النفسية حول هذا الموضوع ؟

إذا فحصنا نظريات الشخصية في علم النفس الحديث فإننا نجد  تباينا في تصور هذا الموضوع؛ فالنظرية الفرويدية  (التحليلية) مثلا تؤكد عدم حرية الإنسان بل تؤمن بالحتمية؛ أي أن الإنسان حسب فرويد (1856-1939) مقيد باللاشعور؛ وهو في صراع دائم مع القوى اللاشعورية مثل الغرائز (الجنس والعدوانية مثلا) ولا ينتصر عليها أبدا.  وينحصر دور الأنا -حسب هذا التصور- في التوفيق بين ضغوط الهو (الغرائز والشهوات) و ضغوط الأنا الأعلى (الضمير والأخلاق). ويشذ عن هذا الموقف، الذي يتخذه فرويد حول حرية الإنسان، اريك فروم ( 1900-1980) ؛ الذي وإن كان ينتمي إلى المدرسة التحليلية إلا أنه لا يتفق مع بعض طروحات فرويد. ومن بين ذلك موقفه الإيجابي من حرية الإنسان؛ فهو يرى أن الشخصية لا تتحدد بتأثير  العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فقط بل يملك الإنسان خصائص نفسية يستطيع بها تشكيل طبيعته (شخصيته) ومجتمعه معا.

  أما النظرية السلوكية فتقف موقف النظرية التحليلية في هذا المجال حيث تؤمن بالحتمية. إن سكينر (1904- 1990) -رائد السلوكية الحديثة- وإن كان لا يتفق مع فرويد في وجود قوى داخلية تتحكم في الشخصية، فإن الإنسان في سلوكه -حسب رأيه- مثل الآلة المضبوطة  والمبرمجة والتي تم تحديد نشاطها ووظيفتها مسبقا. وعليه، فان الإنسان لا يملك حرية التصرف ولا العفوية في السلوك؛ إذ أن سلوكه مقيد بالمثيرات  أي المنبهات التي يتلقاها من محيطه.

وإذا كانت النظريتان: التحليلية والسلوكية لا تؤمنان بحرية الإنسان رغم تباين منطلقاتهما النظرية فإن نظرية السمات التي يمثلها السيكولوجي الأمريكي المعروف جوردون ألبورت ( 1897-1967) تقف بخصوص هذا الموضوع موقفا معتدلا؛ حيث ترى أن في إمكان الإنسان التحكم -بحرية- في مستقبله إلا أن ألبورت يعترف بأن سلوك الإنسان محدد بالسمات والاستعدادات الشخصية التي من الصعب تغييرها بعد تشكلها.

وإذا استعرضنا موقف النظرية الإنسانية -في هذا المجال- فإننا نجد روادها مثل ابراهام ماسلو (1908 - 1970) يؤكدون بأن الإنسان حر الإرادة؛ إذ في استطاعته أن يختار كيفية إشباع حاجاته وتحقيق قدراته. وعليه، فان الإنسان حسب هذه النظرية مسؤول عن درجة أو مستوى النمو الذي يحققه. 

أما موقف النظرية المعرفية التي يمثلها سيكولوجيون معاصرون وعلى رأسهم جورج كيلى ( 1905 - 1967 ) فترى أن الإنسان حر  في اختيار سلوكه والتحكم فيه وتعديله إن استدعت الحاجة إلى ذلك بل وحر في مراجعة مفاهيمه القديمة وتعويضها بمفاهيم جديدة. إن توجه الإنسان حسب هذه النظرية هو دائما نحو المستقبل.

وأخيرا، فان نظرية التعلم الاجتماعي التي يمثلها ألبرت باندورا (925 - .... ) تقف موقفا معتدلا من موضوع حرية الإنسان؛ حيث يرى باندورا أن الناس ليسوا أشياء لا قوة لها، ومراقبة من طرف قوى المجتمع، كما أنهم -في نفس الوقت- ليسوا أحرار ا بصفة مطلقة تمكنهم من القيام بأي شيء يختارونه، بل إن الإنسان والمحيط يتبادلان التأثير؛ ويؤثر كل منهما في الآخر.

وباختصار فإننا نلاحظ -في إطار النظريات النفسية الحديثة- تباينا كبيرا حول موضوع حرية الإنسان؛ وأغلب النظريات تقف موقفا معتدلا حيث تؤكد أن سلوك الإنسان وإن كان يصدر عن إرادة إلا أن هناك قوى بيولوجية (وراثية) وقوى اجتماعية (محيطية ، بيئية) تؤثر في سلوك الإنسان وتوجهه دون إرادته. وبالفعل، فان معظم السيكولوجيين يتفقون على أن أهم محددات الشخصية هي المحددات البيولوجية والمحددات المحيطية -البيئية.

وتنبغي الإشارة هنا إلى إهمال كل هذه النظريات لمشيئة الله تعالى في توجيه السلوك وتحديد مصير الإنسان ! وإلى إهمال المحددات الروحية ( الإيمان بالله مثلا  وما يرتبط بذلك من عمل صالح) وتأثيرها في الشخصية والسلوك. ولعل تدارك هذا النقص يكون بالرجوع إلى التصور القرآني الذي أوردناه أعلاه عن حرية الإنسان. وينبغي لمن يريد مزيدا من التفصيل أن يرجع إلى آراء مختلف الفرق الإسلامية في الموضوع مثل المعتزلة والأشعرية والقدرية وغيرها. وليس الهدف هنا حسم النقاش في هذا الموضوع بل تبيان تأثير الموقف المتخذ حيال هذه المسألة في السلوك والشخصية.

2- الخلود أم العدم ؟

لم يتعرض شولتز لهذا البعد، كما لم يتعرض له السيكولوجيون بصفة عامة؛ إذ يعتبرون هذا الموضوع موضوعا ميتافيزيقيا يترك للفلسفة للاهتمام به. وفي الواقع، فان هذا الموضوع - وإن كان موضوعا فلسفيا في الأساس - إلا أنه بعد أو متغير مرتبط بسلوك الإنسان ويؤثر فيه. وقد بين الله تعالى في سورة البينة أن الخلود في الجنة أو الخلود في النار مرتبط بعمل العبد في هذه الدنيا. يقول تعالى:{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} البينة:6-8.

إن الإنسان الذي يعتقد اعتقادا جازما بأنه مسؤول أمام الله عن سلوكه، وأنه محاسب عن أعماله في اليوم الآخر بحيث يكون مصيره الخلود في الجنة أم الخلود في النار، يكون -دون شك- مختلفا في سلوكه عن الإنسان الذي لا يؤمن بالحساب والعقاب وبوجود الجنة والنار أساسا، ولا بالخلود في إحداهما.

وفي الواقع، فإن الإيمان بالخلود في الجنة يفتح أبواب الأمل والتفاؤل لكثير من الناس المؤمنين، ويدفعهم للتسابق إلى عمل الخيرات للفوز بالجنة والنجاة من النار. ولاشك، أن هذا التسابق والتسارع إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السموات والأرض يشكل دافعية قوية عند المؤمنين مما يدفعهم للعمل الصالح وإتقان هذا العمل أكثر فأكثر.  وعكس هذا الأمر، فإن الإعتقاد بأن مصير الإنسان بعد الموت هو "العدم" يجعل الناس يتهافتون على الدنيا فقط، ويستغلون كل الوسائل لبلوغ مراميهم لإشباع حاجاتهم الدنيوية بأي ثمن ولو كان ذلك على حساب الآخرين.

 3- هل الإنسان ذو بعد واحد (مادي فقط)  أم ذو أبعاد متعددة (مادية-روحية ) ؟

لم يورد شولتز هذه النقطة عندما استعرض صور الطبيعة البشرية عند مختلف السيكولوجيين بصفة منفردة كما فعل بالنسبة لأبعاد أخرى أشرنا إليها أعلاه. ولكن، استعراض مختلف الآراء يبين لنا أن هناك تباينا في مواقف السيكولوجيين حول هذه النقطة؛ فهناك النظريات التي تهتم بالجوانب الفيزيائية والبيولوجية لا غير، كما أن هناك النظريات التي تهتم بالجوانب الفيزيائية والبيولوجية والسلوكية. أما الجانب الروحي المتعلق بالإيمان فلا يكاد يجد مناصرين كثيرين في ميدان نظريات علم النفس السائدة وان كانت الجمعية الأمريكية لعلم النفس تعترف بعلم النفس الديني كأحد ميادين علم النفس الحديث.

ولعل اعتبار الإنسان ككائن ذي أبعاد متعددة (فيزيائية، بيولوجية، روحية، وسلوكية) بحيث ينظر إلى هذه الأبعاد في إطار تفاعلي وتكاملي هو الذي يملأ فجوة النظريات السيكولوجية الحديثة التي تنظر إلى الإنسان من زاوية ضيقة تقتصر على العوامل البيولوجية (الوراثية ، والبيوكيميائية) والمحددات الاجتماعية والبيئية، كما أشرت إلى ذلك أعلاه.

4- هل الإنسان ذو طبيعة خيرة مطلقة أم ذو طبيعة شريرة مطلقة ؟

لم يتعرض شولتز لهذه النقطة في كتابه المذكور. ولعل إهماله لهذا البعد راجع إلى كون هذا الموضوع ذى طبيعة فلسفية وأخلاقية في الأساس، وليس موضوعا سيكولوجيا؛ ذلك لأن أية إجابة عن الموضوع تتضمن حكم قيمة، كما تتضمن موقفا أخلاقيا؛ وهو الشيء الذي يحاول أغلب السيكولوجيين تفاديه.

وهذا التفادي راجع إلى الرغبة القوية في تمييز علم النفس موضوعا ومنهجا عن الفلسفة و علم الأخلاق، كما أنه راجع للأسباب المذكورة أعلاه. ورغم هذا الاحتراز، فإننا نجد بعض السيكولوجيين قد تعرضوا لهذه النقطة ولو بصفة غير مباشرة كما سأورد ذلك بعد قليل.

ومهما يكن، فانه لا يمكن فصل علم النفس عن الفلسفة وعن الأخلاق فصلا كليا. ولذا فإني أعتبر النظرة الإسلامية للإنسان في هذا الجانب نظرة موضوعية؛ إذ تنظر للإنسان نظرة متعددة؛ فالإنسان ليس خيرا على الإطلاق،كما أنه ليس شريرا على الإطلاق بل تتنازعه قوى الخير والشر، وهو في صراع دائم مع قوى الشر ونوازعه، وتركز النظرة الإسلامية على الفروق الفردية في هذا المجال، كما تركز على تأثير الجانب الإيماني في طبيعة الإنسان.

ومهما كان الإنسان خيرا فانه لن يسلم من الشر، كما أنه مهما كان شريرا فانه لا يخلو تماما من أي خير. ولكن نوع التربية والتعلم وتأثير المحيط والاستعدادات البيولوجية والوراثية والتأثيرات الفيزيولوجية والقيم التي يؤمن بها الإنسان هي التي توجهه نحو الخير أو الشر بحيث يغلب عليه اتجاه ما.

ويضيف بعض العلماء  - من المنظور الإسلامي- نزغ الشيطان وتأثيره السلبي في السلوك بحيث يدفع الإنسان إلى ارتكاب الأعمال الشريرة. وبطبيعة الحال، فان علاج هذا النزغ ودفعه يتمثلان في الاستعاذة بالله -قولا وعملا - من الشيطان الرجيم. وهذا السلوك (تأثرا ودفعا) مما لا يعتبر أيضا في إطار النظريات النفسية الغربية إذ  لا يمكن ملاحظة ذلك حسب زعم السيكولوجيين الغربيين.

وباختصار، فان الإنسان ليس خيرا كله وليس شرا كله؛ فهو يجمع بين بعض خصائص الملائكة وبعض طبائع الشيطان؛ ولذا فهو كائن آخر ليس بملاك ولا بشيطان ... إنه إنسان بأبعاده المتعددة !

وإذا أردنا معرفة موقف السيكولوجيين المعاصرين من موضوع ارتباط الخير والشر بالإنسان فإننا نجد ماسلو

(صاحب النظرية الإنسانية) مثلا يؤكد أن الطبيعة البشرية الفطرية (الموروثة) جيدة وطيبة ولطيفة إلا أن ماسلو لم يلغ وجود الشر عند البشر. أما فرويد فقد كان متشائما آلي أبعد الحدود؛ حيث أكد "بأنه لا يرى أي خير  عند البشر"، كما كان فرويد يؤمن جازما بأن العدوانية  وكذلك الجنس عبارة عن غرائز ذات أصل بيولوجي وتشكل جزءا أساسيا من الطبيعة البشرية (شولتز، 1994).

5- هل سلوك الإنسان مبني على النيات والأعمال أم النيات فقط أم الأعمال فقط ؟

لا يعتبر موضوع النية من مواضيع علم النفس الحديث ولا يكاد يشار إليه إلا قليلا؛ إذ أن هذا المفهوم مفهوم ديني يتعلق بالجانب التعبدي في السلوك حيث إن النية موضوع أساسي في أية عبادة في الإسلام . وإذا كان هدف خلق الإنس والجن -حسب ما جاء في القرآن- هو عبادة الخالق، فإن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع يشمل كل أنواع السلوك مهما كان هذا السلوك إذا كانت النية هي التقرب لله وعبادته.  وقد أوضحت هذه العلاقة  عندما أوردت كلام الشاطبي في هذا الموضوع.

وبالرغم من عدم اهتمام علم النفس الحديث بمفهوم النية، فان علم النفس لايغفل موضوع الدوافع والبواعث والحوافز وتأثيرها في السلوك  ولكن شولتز لم يورد هذا البعد في تصور الطبيعة البشرية عند مختلف السيكولوجيين، وتأثيره في السلوك وفي الشخصية. 

واعتمادا على الحديث الشريف " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ، فإن النية أساسية ليحصل الأجر والثواب في أي سلوك يقوم به المسلم، إلا أن الاعتبار  في الإسلام وخاصة في القضاء هو الأعمال ونتائجها وعواقبها وليس النيات، بل ان النيات أساس التعبد وأساس حصول الأجر عند الله مهما كانت النتائج والعواقب المرتبطة بها، ويعتبر هذا التمييز هاما حتى لا يساء السلوك بحجة حسن النية، كما لا يمكن أن تحاكم النيات من طرف الأشخاص مهما كان مستواهم أو من طرف الهيئات مهما كانت. ولكن من الممكن ملاحظة السلوك والحكم له أو عليه وفق معايير دينية أو اجتماعية أو مقاييس نفسية.

وباختصار، فان الاعتبار في الجانب التعبدي -في كل الأعمال- بالنيات التي لا يعلمها إلا الله وصاحبها، أما الاعتبار في الجانب  الجزائي -عند البشر- فبالنتائج والعواقب وليس بالنيات. فقد أمرنا الرسول (ص) بالحكم بالظواهر و الله تعالى يتولى السرائر. 

ومهما يكن، فإنه كلما طابقت النيات الأعمال، وطابقت الأعمال النيات كلما كان ذلك مدعاة للرضا، وتحصيل الأجر، وتحقيق النتائج المرجوة عند العباد ورب العباد.

وعموما، فإن السلوك -عادة- ما يكون انعكاسا للنوايا إلا في حالات قليلة مثل حالات النفاق. وحتى في بعض الحالات مثل هذه يمكن أن يعكس السلوك سوء النية والنفاق. فقد قال رسول الله (ص) : " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان. وفي رواية إذا خاصم فجر".

فمن الواضح من هذا الحديث وغيره أن السلوك الظاهري قد يصبح محكا أو معيارا للنوايا بالنسبة لنا نحن الدارسين الملاحظين والباحثين.

6- هل ماضي الإنسان أكثر تأثيرا في سلوكه أم حاضره أم مستقبله أم كل ذلك ؟

إذا تصفحنا النظريات النفسية الحديثة حول " الشخصية "  فإننا نجد تباينا كبيرا بين مختلف هذه النظريات حول تأثير كل من ماضي وحاضر الفرد في بلورة شخصية هذا الفرد؛ فبعض النظريات تولى اهتماما أكبر لتأثير مرحلة الطفولة ( من الولادة إلى سن 12 -13 سنة ) في تشكيل الشخصية، بينما ترى نظريات أخرى أن الشخصية مستقلة عن الماضي، وأنه في إمكانها التأثر بالأحداث والتجارب في الحاضر، وبالآمال والطموحات في المستقبل.

ترى النظرية التحليلية مثلا وخاصة الاتجاه الفرويدي أن ماضي الفرد هو أساس بناء الشخصية، وأن بنية الهو

  -الذي هو أكبر جزء في البنية العامة للشخصية- عبارة عن بنية فسيولوجية موروثة، و أن مراحل النمو النفسي-الجنسي موروثة أيضا. والمعروف  أن النظرية الفرويدية تولى اهتماما كبيرا لهذا الجزء من بنية الشخصية (الهو، اللاشعور)،كما تعتبر أن مراحل النمو النفسي-الجنسي التي يمر بها الطفل من الولادة إلى المراهقة هي التي تشكل وتبلور الشخصية وتحدد - إلى حد بعيد- السواء واللاسواء فيحاضر ومستقبل الشخص، بل يعتبر فرويد السنوات الخمس الأولى هي التي تحدد نمط شخصية الإنسان عند الرشد.

وإلى جانب هذا التركيز على الجانب البيولوجي، فان النظرية التحليلية لا تنكر بأن جزء من الشخصية يتم اكتسابه بواسطة التعلم في المراحل المبكرة من العمر عبر التفاعل بين الصبي و الأبوين بصفة خاصة.

وكما هو معروف، فان تلاميذ فرويد وأتباعه الأوائل مثل ألفرد أدلر وكارل يونغ قد انتقدوا فرويد بقوة لتصوره المتطرف  للشخصية، ولتركيزه على دور غريزتي الجنس والعدوانية في تحديد أنماط الشخصية بصفة حتمية. وليس المجال هنا مجال إيراد كل هذه الانتقادات بل يكفي أن أشير أن أدلر  مثلا  ينظر إلى هذا الموضوع نظرة أكثر توازنا حيث يعتبر أن تشكيل الشخصية إنما هو نتاج ماضي وحاضر الفرد، ومثل هذا الموقف موقف يونغ واريك فروم واريك اريكسون حيث يولى هؤلاء اهتماما لمختلف مراحل العمر، و ليس للمراحل المبكرة من العمر فقط كما فعل فرويد.

أما إذا انتقلنا إلى موقف نظرية السمات، التي يمثلها جوردون ألبورت حول هذا الموضوع، فاننا نجد أن هذه النظرية تعطى وزنا أكثر  للحاضر في تشكيل الشخصية. وعليه، يرى ألبورت أن الشخصية تتأثر بأحداث الحاضر، وبنظرتها المستقبلية أكثر مما تتأثر بماضيها.

وإذا أردنا أن نعرف موقف النظرية الإنسانية من هذه النقطة فإننا نجد أن ماسلو  يقف موقفا معتدلا في هذا الموضوع؛ حيث يعترف ماسلو بأهمية خبرات مرحلة الطفولة المبكرة في تفتق الشخصية أو في عرقلة نموها إلا أنه لا يؤمن بأننا ضحايا هذه الخبرات بل إن ماسلو من السيكولوجيين القلائل الذين أولوا اهتماما كبيرا لمختلف مراحل العمر وخاصة لمتوسط العمر.

وتقف النظرية السلوكية حيال هذا الموضوع نفس الموقف المعتدل للنظرية الإنسانية؛ فرائد السلوكية المعاصرة سكينر ( 1904-1990) يؤكد أن خبرات الماضي تؤثر في سلوكنا وشخصيتنا مثلما تؤثر تماما خبرات الحاضر. وبهذا فان موقف السلوكية ازاء هذا الموضوع هو موقف معتدل أيضا.

فما هو موقف الإسلام من هذه النقطة ؟

لقد أولى الإسلام اهتماما كبيرا لمرحلة الطفولة لما لها من أهمية في تشكيل الشخصية والسلوك، إلا أن تأمل مجمل النصوص لا يبين لنا بأن الفرد محكوم عليه بأن يبقى سجين ماضيه بل إن التجربة التاريخية الإسلامية تبين لنا بكل وضوح كيف أن الإسلام قد استطاع تغيير سلوك وشخصيات الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع واعتقاد، ووجهها توجيها جديدا. كما استطاع الإسلام تغيير أقوام وحضارات تغييرا جذريا خاصة في مجال العقيدة. وكما أن الإنسان محاسب على ماضيه، فان باب التوبة مفتوح لتغيير عواقب هذا الماضي إن كان حافلا بالسيئات والذنوب؛ والتغيير يكون بالعمل الصالح والإقلاع عن المعاصي والذنوب. بل إن مرحلة الطفولة في الإسلام هي مرحلة التعلم والتدريب، وهي مرحلة يرفع فيها القلم على الإنسان حتى يبلغ.

أما المستقبل فهو بعد هام في تشكيل شخصية المسلم؛ ذلك لأن المستقبل في الإسلام لا يمتد في هذه الحياة الدنيا فقط بل يمتد إلى اليوم الآخر. وعليه، فالمستقبل بعد هام في بلورة الشخصية المسلمة وتوجيهها للعمل الصالح في الحاضر والمستقبل.

ولعل الآية الكريمة : "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" (القصص :77) ، و الحكمة التي تقول : "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"، أحسن تلخيص لموقف الإسلام في هذه النقطة.

7- هل المحيط ( التعلم ) أقوى تأثيرا في سلوك الإنسان أم الوراثة ؟

يقر الإسلام تأثير الجانب البيولوجي ( الوراثي) في طبع الإنسان وشخصيته؛ فالإنسان مخلوق من نطفة إذا تمنى ، ومن نطفة أمشاج ؛ أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين . ولاشك، أن هذه النطفة -كما بين العلم الحديث- تحمل الخصائص الوراثية التي يتأثر بها الإنسان في مختلف مراحل عمره. وفي هذا المعنى يمكن إيراد الآية الكريمة : "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا" (الفرقان:54) . وقد جاء في تفسير الجلالين بأن المقصور بالماء في هذه الآية هو المني، كما جاء في التفسير أن المقصود بالنسب جهة الأب، والمقصود بالمصاهرة جانب الأم. وعليه، فإن الآية الكريمة تجمع بين الإشارة إلى كل من الجانبين البيولوجي (الوراثي) والاجتماعي (المصاهرة والتعارف وإقامة العلاقات الاجتماعية). 

وإلى جانب تأثير الوراثة، فان الإسلام يولى أهمية كبيرة لتأثير الوالدين والمجتمع في تشكيل شخصية الإنسان. وفي هذا يقول الرسول (ص) : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل ترى فيها من جدعاء " (متفق عليه). ويبدو من هذاالحديث أيضا تأثير كل من الوراثة والمحيط (البيئة) في تشكيل الشخصية.كما نعى القرآن الكريم على الكافرين اتباعهم آباءهم في السلوك عامة وفي اعتقاداتهم الباطلة خاصة دون إعمال النظر، وتحكيم العقل. وفي هؤلاء يقول الله تعالى: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون "  (الأعراف :28) . ويقول أيضا عن سيدنا إبراهيم وقومه: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين، إذ قال لأبيه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا عليها آباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم وآباؤكم في ضلال مبين " (الأنبياء:51-54).

ومن الواضح من تجارب عديدة في تاريخ الأفراد والجماعات والأمم أن شخصية الإنسان قابلة للتعلم والتغير والإبداع والابتداع في مختلف مراحل العمر، وأن الأمثلة على ذلك كثيرة؛ ويكفي أن نشير إلى التغيير الذي أحدثه الإسلام في نفوس أشخاص في مختلف أعمارهم، وفي أحوال القبائل والأمم بمجرد اعتناق الإسلام. وعليه، فان الإسلام لا يشجع اعتناق حتمية التأثير المطلق للماضي، بل إن الإسلام يفتح الأبواب على مصاريعها لمراجعة النفس وتعديل سلوكها وتغيير طبائعها لتتوافق مع تعاليم الإسلام. ولذا فان الإسلام يجب ما قبله، ويفتح بالتوبة والاستغفار آفاقا سلوكية جديدة تعيد التفاؤل للإنسان. كما لا يبدو الإسلام مشجعا للحتمية المطلقة للبيئة أو للتعلم؛ ذلك لأن للوراثة دورا لا ينكره الإسلام كما للتعلم دوره المؤثر. ولعل تأملنا في الآيات التالية يبين لنا كيف أن الفطرة قابلة للتغيير بالإيمان والعمل، وبذل الجهد. يقول تعالى : "إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، ....، والذين هم على صلاتهم يحافظون" (المعارج : 19-34 ) .

ويقول تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...".

وإذا تأملنا مجمل النصوص، فقد نلاحظ -ظاهريا على الأقل- أن الإسلام يعطى للتعلم أو للبيئة دورا أهم من الدور الذي يوليه للوراثة؛ وهذا تأكيد لدور الإرادة والقدرة على التغير والتغيير على المستويات: الفردية والجماعية والمجتمعية،كما يبين دور التعلم والتعليم في التغير والتغيير .

ما هو موقف السيكولوجيا الحديثة من هذه النقطة ؟

هناك تباين كبير بين السيكولوجيين حول هذه النقطة إلى حد التناقض؛ فهناك من أولى أهمية أكبر للوراثة منكرا أي تأثير ذي قيمة للبيئة، كما أن هناك من بالغ وأعطى للبيئة كل التأثير في بلورة الشخصية وما يتصل بها من صفات وخصائص نفسية كالذكاء والدافعية والانفعالات ... إلا أن هذا الصراع قد حسم مؤخرا ليترك المجال لموقف توافقي يعترف بتأثير كل من البيئة (المحيط) والوراثة في تشكيل الشخصية والسلوك وتعديلهما وتغييرهما .

إن هذا الموقف التوافقي  يعترف بتأثير السمات والحاجات الفردية إلى جانب تأثير المحيط في تشكيل الشخصية والسلوك. وقد جاء هذا الموقف بعد عشرين سنة من الصراع بين السيكولوجيين الغربيين؛ والذي امتد من الستينيات إلى أوائل الثمانينيات ( Phares  1991) .

 

8 - هل التفاؤل أساس الطبيعة البشرية أم التشاؤم ؟

عندما خلق الله آدم، و أخبر الملائكة بنبأ هذا الخلق الجديد الذي جعل في الأرض خليفة قالت الملائكة لله تعالى كيف تجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء. " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون ... " ( البقرة: 30 ). رغم أن الملائكة تساءلت عن الحكمة من خلق آدم، فان الله تعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم إذ أن الله تعالى يعلم مالا تعلمه الملائكة من خلق آدم.

ورغم نسيان آدم لأمر الله تعالى وهو في الجنة مع زوجه، فقد غفر له الله تعالى ذلك بعد توبته. وحتى بعد هبوط آدم وحواء من الجنة، وحتى بعد قتل هابيل لقابيل، وحتى بعد سفك الدماء والمعاصي التي ارتكبها ويرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان ماض وحاضرا ومستقبلا، فان الإنسان -كما بينا أعلاه- ليس شرا كله وليس خيرا كله، بل إن أعماله تتراوح بين الخير والشر حسب الطبيعة (محددات بيولوجية ، وراثية) أولا، وحسب التربية والتعلم ثانيا، والإيمان والعمل ثالثا.

وبالرغم من خطايا بنى آدم، فقد فتح الله لهم أبواب التوبة على مصراعيها، بل ومهما أسرفوا في ارتكاب السيئات فإن الله تعالى يقول: "ويقبل التوبة عن عباده" (التوبة:104). ويقول تعالى: "وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان" البقرة:186.  فهل هناك أعظم باب للتفاؤل من هذا الباب؛ وهو باب الرحمة المفتوح دائما للعباد من طرف رب العباد. ويبشر الله تعالى عباده المؤمنين بالأجر العظيم حيث يقول تعالى: "إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا" الإسراء:9.

ورغم ضغوط الحياة والصعوبات التي يواجهها الإنسان في هذه الحياة، فإن القرآن ما يفتأ يؤكد على العمل الصالح و على ضرورة تحقيق خلافة الله على الأرض كما يحب الله تعالى ويرضى. وإذا تأملنا بعض الأحاديث الشريفة فإننا نلاحظ أن النبي (ص) ما يفتأ يحض على التفاؤل ونبذ التطير والتشاؤم. فقد جاء في الحديث الشريف : "لا طيرة وخيرها الفأل قالوا وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" ( رواه البخاري في كتاب الطب، وهو حديث متفق عليه). وفي حديث آخر رواه البخاري " قال لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة".  وفي حديث آخر يقول الرسول (ص) :" يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا".

وباختصار، فان الإسلام كله دعوة للتفاؤل وعدم الاستسلام لليأس والقنوط حتى بالنسبة للذين أسرفوا في الذنوب والخطايا. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" ( الزمر: 35 ) . ويقول تعالى: "إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا" الشرح: 6-7. ويقول تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا  القوم الظالمون" يوسف: 87.

ما هو موقف السيكولوجيا من هذه النقطة ؟

1- موقف النظرية التحليلية :

إذا نظرنا إلى موقف فرويد من هذا الموضوع، فإننا نجده متشائما إلى حد كبير؛ فهو يصف الإنسان وصفا سلبيا متشائما؛ ذلك لأن الإنسان -حسب فرويد- محكوم عليه بالصراع مع قواه الداخلية أي ( غرائزه ) التي تتغلب عليه دائما، وأن الإنسان محكوم عليه ليصبح ضحية القلق والحصر والصراع.

ولعل موقف فرويد هذا راجع لتأثره بالقصص الموجود في التوراة التي شوهت سمعة الأنبياء عليهم السلام، كما قد يرجع ذلك إلى المشاهد المروعة التي عايشها أثناء الحرب العالمية الثانية.

وعلى عكس هذه الموقف المتشائم، فان كارل يونغ متفائل بخصوص الطبيعة البشرية؛ إذ يرى أن الإنسان قابل للنمو و للتحسن والتطور. ونفس الموقف يقفه أدلر في هذا الموضوع، وكذلك اريك فروم وموراي وهورنى.

2- موقف مدرسة السمات:

يصف ألبورت الإنسان وصفا قائما على التفاؤل؛ إذ يؤمن بقابلية الإنسان للتحسن كما يؤمن بالإصلاح الاجتماعي. أما بالنسبة لريموند كاتل (1905 - ...)، فإن موقفه من هذا الموضوع يختلف قليلا عن موقف ألبورت. كان كاتل في فترة شبابه متفائلا حول قدرة الإنسان على حل المشكلات التي تواجه المجتمع؛ وذلك باكتساب المعارف الضرورية للتحكم في المحيط، إلا أن الواقع لم يكن في مستوى توقعات كاتل، ولذا فقد استنتج بأن الطبيعة البشرية والمجتمع قد تقهقرا معا .

3 - موقف المدرسة الإنسانية :

يقف رواد المدرسة الإنسانية من هذا الموضوع موقفا إيجابيا؛ فهم جميعا متفائلون حول الطبيعة البشرية.  وعليه، فهم يركزون على الصحة النفسية بدلا من الاضطرابات النفسية، وعلى النمو بدلا من الجمود والركود، وعلى الجوانب الإيجابية عند الإنسان بدلا من جوانب ضعفه وعيوبه.

4 - موقف المدرسة السلوكية :

رغم اعتقاد سكينر وبقية السلوكيين أن المحيط هو الذي يتحكم في سلوك الإنسان ، إلا أنهم يؤكدون بأن الإنسان مسؤول عن تصميم وتشكيل هذا المحيط بجوانبه المختلفة : بنايات ، آلات ، ملابس ومأكولات ومؤسسات حكومية ، ونظام اجتماعي ولغة وعادات ... وبناء عليه، ففي استطاعة الإنسان إدخال تعديلات على هذا المحيط لتحقيق ما فيه مصلحته.

ونظرا لهذا، فان الإنسان يصبح في نفس الوقت متحكما (بكسر الكاف) ، ومتحكما فيه (مراقبا) . وبتعبير آخر، فإن الإنسان -حسب سكينر- هو الذي يصمم ثقافة متحكمة إلا أنه يصبح بالتالي إنتاجا  لتلك الثقافة.

5- موقف المدرسة المعرفية :

          ترى هذه المدرسة ممثلة برائدها جورج كيلى (1905 - 1967) بأن الإنسان كائن عاقل قادر على تشكيل مفاهيم يستطيع رؤية العالم خلالها،كما يستطيع تشكيل تناول (موقف) متفرد لرؤية الواقع. ويعتقد كيلى بأن الإنسان هو الذي يرسم قدره (مصيره) وليس (الإنسان) ضحية القدر.

9 - هل يسعى الإنسان إلى تحقيق التوازن أم هو في نمو مستمر ؟

يبدو من الآيات الكريمة أن الإنسان في نمو مستمر في النواحي الجسمية والنفسية (الوجدانية والعقلية) إلى أن يبلغ أشده في الأربعين ثم يبدأ في الانتكاس في الجوانب الجسمية والنفسية أيضا إلى أن يموت.  يقول تعالى: "ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون" ( يس : 68 ) .

ورغم هذا القانون العام في النمو، فإن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كلها حث على طلب المعرفة و تهذيب النفس وترقيتها في مختلف مراحل العمر؛ وإن كانت المسؤولية تبدأ شرعا بالبلوغ و تنتهي بالموت. أما موقف مختلف مدارس علم النفس فهو كما يلي :

1- موقف المدرسة التحليلية : يرى فرويد بأن الإنسان مدفوع لإعادة التوازن والحفاظ على حالة من التوازن الفسيولوجي وذلك لحماية العضوية من التوتر والحصر. وهذه الدافعية غريزية حيث تدفع العضوية باستمرار وبشكل دوري إلى الإحساس بالتوتر وبالتالي إلى العمل على خفض هذا التوتر، وعلى الحصول على اللذة، وهكذا. وعكس هذا الموقف، فان كارل يونغ يرى بأن الإنسان في نمو مستمر؛ ويعتقد يونغ بأن أهم التغيرات في الشخصية تبدأ في الظهور عند منتصف العمر بين 35-40 سنة.

أما أدلر فيعتقد بأن الإنسان في سعي دائم (مجاهدة) لتحقيق التفوق (نمو مستمر)؛ وأن هذا السعي من شأنه أن يزيد التوتر بدلا من خفضه. وعكس رأي فرويد، فان أدلر لا يرى بأن الدافع الوحيد للإنسان هو خفض التوتر ؛ ذلك لأن السعي أو المجاهدة من أجل التفوق يتطلب صرف أكبر قدر من الطاقة والجهد؛ وهذه الحالة عكس حالة التوازن التي تتميز بخفض التوتر. ويؤكد أدلر أن السعي من أجل تحقيق التفوق عملية فردية ومجتمعية .

وباختصار، فان أغلب رواد التحليل النفسي -ماعدا فرويد- يؤكدون أهمية النمو بدلا من التوازن كخاصية من خصائص الطبيعة البشرية، والشخصية الإنسانية .

2- موقف مدرسة السمات : يرى ألبورت بأن الهدف الضروري للحياة ليس هو خفض التوتر كما كان يرى فرويد بل رفع حالة التوتر التي تدفع الإنسان للبحث عن أهداف وتحديات جديدة . وعندما ينجز الإنسان تحديا ما ، تتشكل عنده دافعية لإنجاز تحدي آخر .  والمجزي في العملية -حسب ألبورت- ليس الإنجاز في حد ذاته بل عملية الإنجاز ، وكذلك الأمر عند المجاهدة لإنجاز هدف ما ؛ فالمجزي هو المجاهدة (عملية السعي) وليس تحقيق الهدف نفسه. وعليه، فالإنسان في حاجة مستمرة لأهداف جديدة لتحفيزه وتشجيعه، وللحفاظ على مستوى ضروري من التوتر في الشخصية.

3- موقف المدرسة الإنسانية :  يعتقد رواد هذه المدرسة أن الإنسان في نمو مستمر ؛ فالإنسان -حسب ماسلو- تدفعه حاجات فطرية تتدرج في شكل هرمي من حاجات أساسية (فسيولوجية) من مأكل ومشرب وتناسل ونوم وتنفس إلى الحاجة إلى الأمن فإلى الحاجة إلى الانتماء والحب وإلى الحاجة إلى التقدير وانتهاء بالحاجة إلى تحقيق الذات وهي أعلى الحاجات . ولا تتحقق هذه الحاجة الأخيرة حسب -ماسلو- إلا عند منتصف العمر كما أنها لا تتحقق إلا عند نسبة ضئيلة من الأشخاص الناجحين .

4- موقف المدرسة السلوكية :  لم يتعرض رواد المدرسة السلوكية للدوافع الداخلية أو للتوتر الداخلي الذي يدفع الإنسان لتحقيق أهداف أو لإنجاز ما ؛ ذلك لأن تشكل السلوك حسب السلوكيين يتم بالتعلم، وأن سلوك الإنسان هو نتيجة التعلم الذي تشكله عوامل خارجية. وينبني على هذا رفض وجود أية عوامل فطرية (وراثية) أو داخلية (ذاتية) تدفع الإنسان لإنجاز أهداف ما .  وإذا كانت هناك أية أهداف  فليست -حسب سكينر- أهدافا فردية بل هي أهداف اجتماعية .  ورغم تأكيد السلوكيين على تشكل السلوك الأساسي في مرحلة الطفولة، فانهم لا ينفون إمكانية تعديل و تغيير السلوك في مرحلة الرشد، واكتساب أنماط جديدة من السلوك.

         وباختصار، فان موقف السلوكيين من هذا الموضوع (التوازن-النمو) هو موقف معتدل.

 

10 - هل كل إنسان متفرد (متمايز) بخصائصه وشخصيته أم هناك بجانب التفرد عالمية وشمولية في الطبيعة البشرية وأبعاد الشخصية ؟

يتفق أغلب السيكولوجيين الذين كتبوا في موضوع الشخصية على أن من مميزات الشخصية: التمايز والثبات عبر الزمن، إلا أنهم اختلفوا حول الخاصية المتمثلة في التفرد/ العالمية كخاصية من خواص الطبيعة البشرية هل هي متمايزة أم عالمية.

1- موقف المدرسة التحليلية : يعترف فرويد ببعد (خاصية) العالمية في الطبيعة البشرية حيث يرى بأن كل إنسان يمر بنفس مراحل النمو النفسي - الجنسي، وأن كل إنسان تدفعه نفس القوى والغرائز ( الهو ) . ورغم هذا فقد أكد فرويد أن جزءا من الشخصية متفرد ومتمايز . وعليه ، فان الأنا والأنا الأعلى -وان كانا يؤديان نفس الوظائف بالنسبة لكل شخص- إلا أن محتواهما يختلف من شخص لآخر؛ ذلك لأنهما تشكلا عبر تجارب شخصية يمر بها كل فرد على حدة. أما يونغ فيقف موقفا وسطا من هذه الموضوع مثل فرويد تماما إلا أنه يختلف عنه في شرح هذا البعد في الشخصية. يرى يونغ أن هناك تمايزا في الشخصية حتى منتصف العمر ، أما بعد ذلك فهناك عالمية في تشكل الشخصية حيث لا تظهر بعد منتصف العمر أية أنماط متمايزة للشخصية حسب يونغ. وعكس موقفي فرويد و يونغ، فقد أكد أدلر بوضوح خاصية التمايز والتفرد في الشخصية . ويقف فروم من هذا الموقف موقفا وسطا حيث يعترف بأن هناك بعد العالمية (الشمولية) في الشخصية ؛ ويتمثل ذلك في خاصية اجتماعية مشتركة ضمن إطار ثقافة ما، وفي نفس الوقت يعتقد فروم بأن كل شخص متميز عن الآخرين.

2- موقف مدرسة السمات : يرى ألبورت بأن كل شخص متمايز عن الآخرين؛ ذلك لأن لكل فرد سماته واستعداداته التي تحدد بدقة شخصيته وتميزه عن الآخرين . ورغم هذا الموقف، فإن ألبورت لا ينكر وجود سمات مشتركة بين الناس .

3- موقف المدرسة الإنسانية : يعتقد ماسلو  بأن الحاجات والدوافع مشتركة بين الناس (عالمية) إلا أن أساليب إشباع هذه الحاجات تختلف من شخص لآخر؛ ذلك لأن هذا السلوك يتم تعلمه. وعليه، فان ماسلو و روجرز يقفان موقفا وسطا في هذا الموضوع. 

4- موقف المدرسة السلوكية :  نظرا لأن تشكل السلوك يتم بالتعلم، فان كل شخص يتميز عن الآخرين؛ ذلك لأن التجربة هي التي تشكل السلوك وأن كل الأشخاص لهم تجارب مختلفة وخاصة أثناء الطفولة. وعليه، فإننا لن نجد شخصين يسلكان بدقة نفس السلوك؛ أي أن التمايز هو الخاصية الأساسية للطبيعة البشرية وللشخصية الإنسانية. 

5- موقف الإسلام : من الواضح -كما جاء في القرآن الكريم- أن البشر قد خلقوا أصلا من نفس واحدة.  وقد ورد هذا التأكيد أربع مرات في القرآن الكريم : سورة النساء: 1 ، سورة الأنعام: 98، سورة الأعراف:  189، سورة الزمر: 6 . ورغم هذا الخلق من نفس واحدة إلا أن الإسلام يقر التفاوت والتمايز بين البشر سواء كان ذلك في الناحية الجسمية أم النفسية أم الاثنين ، كما أن المسؤولية عن الأعمال والسلوك -في الإسلام- مسؤولية فردية. وفي هذا المعنى يقول تعالى : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات : 13). يمكن أن نفهم من هذه الآية أن التمايز قائم على المستويين: الفردي والمجتمعي (قبائل وشعوب). وقد جعل الله تعالى اختلاف الألوان والألسن آية لأولى الألباب. يقول تعالى:

 "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (الروم : 22). ويقول تعالى في تفضيل بعض الناس عن بعض أو ما يسمى حديثا بالفروق الفردية : "وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم " (البقرة: 247). ويقول تعالى :" انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا" (الإسراء:21). ويقول تعالى بخصوص المسؤولية الفردية: "ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون" (الزمر:70). وعندما نتأمل صيغ التمايز فإننا نجدها كثيرة بعضها جسمي وبعضها الآخر نفسي وبعضها الآخر ديني؛ وذلك كله تبعا لمشيئة الله تعالى  وفي هذا المعنى يقول تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" (هود: 118-119). وحسب تفسير الجلالين، فإن المقصود بالاختلاف في هذه الآية هو الاختلاف في الدين.

 يمكن أن نستنتج من مجموع هذه الآيات أن الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية قائمة على التمايز وإن كان أصلها واحدا (من نفس واحدة)، وأن هذا التمايز قائم على المستويات الجسمية والنفسية والروحية (عند الفرد)، وقائم على مستوي التنظيمات الاجتماعية والدينية والعرقية (قبائل وشعوب وألوان وألسنة وأديان ومذاهب). وأخيرا، فانه من الممكن تصور نموذج للطبيعة البشرية من منظور إسلامي وفق الأبعاد والخصائص المذكورة أعلاه.

نحو نموذج للطبيعة البشرية من منظور إسلامي:

من أهم مميزات هذا النموذج ما يأتي:

1- تأكيد الجانب الروحي، وتأثير هذا الجانب الروحي بالمفهوم الإيماني في الشخصية والسلوك.

2- هناك علاقة مباشرة بين الإيمان والسلوك، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

3- هناك تكامل وتفاعل بين الجوانب الروحية والبيولوجية والفيزيائية في تكوين شخصية الإنسان وسلوكه.

4- الإنسان مخير في بعض القضايا ومجبر في أخرى.

5- يبدو أن البيئة أو المحيط أكثر تأثيرا من الوراثة رغم الاعتراف بتأثير الوراثة أو بالجانب البيولوجي في تشكيل السلوك والشخصية.

6- تركز النظرة الإسلامية على أهمية النمو والتغير والتعلم في تشكيل الشخصية وبلورة السلوك بدلا من التركيز على عملية تحقيق التوازن التي تهدف أساسا إلى خفض التوتر والبحث عن اللذة.

7- رغم الجوانب السلبية في شخصية وسلوك الإنسان فان المنظور الإسلامي للشخصية أكثر تفاؤلا من موقف بعض السيكولوجيين. ويدعو المنظور الإسلامي للتفاؤل ونبذ التطير والتشاؤم، وعدم الاستسلام لليأس والقنوط، ولتأثير الأحلام المزعجة.

8- رغم تأكيد المنظور الإسلامي على أصل الخلق من نفس واحدة، فان التمايز على كل المستويات الروحية والنفسية والبيولوجية والفيزيائية أهم من أوجه التشابه أو النمطية في الشخصية والسلوك. والنظرة الإسلامية كلها دعوة للتنافس بين الناس في أوجه الخير والعمل الصالح.

9- حاضر ومستقبل الشخصية (في هذه الدنيا وفي الآخرة) والسلوك المرتبط بهما أهم من الماضي في المنظور الإسلامي، بل إن مرحلة الطفولة وحتى البلوغ لا تترتب عنها أية محاسبة من الناحية الشرعية. ولكن هذه المرحلة من النواحي التربوية و مسؤولية الوالدين والمؤسسات الاجتماعية مرحلة أساسية لم يهملها الإسلام بتاتا. ومن الجدير بالملاحظة أن الإسلام قد نظر إلى حياة الإنسان نظرة شاملة تبدأ بمرحلة ما قبل الولادة إلى مرحلة الولادة فإلى مختلف مراحل العمر حتى الوفاة ثم إلى ما بعد الموت ( البرزخ، الجنة أو النار ). وقد ذكر الله تعالى موضوع الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء مرة أخرى في أربع آيات (البقرة: 28، الحج:66، الجاثية:26، الروم:40). يقول تعالى في سورة البقرة: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون".  ويقول في سورة الحج:" وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون".

 ومن المعلوم أن أقصى ما توصل إليه السيكولوجيون المعاصرون هو دراسة الشخصية من الولادة إلى الوفاة كما فعل اريك اريكسون (1902- .....) المعروف بنظريته المسماة بالنمو النفسي-الاجتماعي، أو بالتناول المسمى "طول الحياة" ( Approach  Life Span).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة

 

من الصعب وضع خاتمة لموضوع حول الطبيعة البشرية من منظور مقارن؛ فالخاتمة إذن للمقال وليس للموضوع. ومهما يكن، فإني لا أدعى بأني وفيت الموضوع حقه، خاصة وأن تصورات الطبيعة البشرية -كما أشرت إلى ذلك- متنوعة ومتعددة بتعدد المذاهب الفلسفية والفكرية والدينية، والمدارس النفسية والمجتمعية، والموضوع في حاجة إلى نقاش كبير وإثراء مستمر وبحث أكثر عمقا ودقة. وقد أغفل المسلمون لمدة طويلة دراسة خصائص الطبيعة البشرية، وعلوم الإنسان رغم أهمية هذه العلوم في البناء الحضاري، ورغم أن الإنسان هو محور الرسالة التي جاء بها القرآن الكريم ؛ فالرسالة للإنسان ليقيم خلافة الله على الأرض. 

ورغم زعمي في بداية الدراسة بأنني سأقوم بمقارنة مختلف التصورات والنظريات حول الطبيعة البشرية من "منظور إسلامي-نفسي-مقارن"، إلا أنني لم أبين دائما وبصفة واضحة كل أوجه الشبه والاختلاف بين هذه التصورات والنظريات، وتركت ذلك أحيانا لإدراك القارئ واستنتاجه .

وعلى كل، فان هذه الدراسة قد تساعد المهتمين بهذا الموضوع على وضع افتراضات وفرضيات حول الطبيعة البشرية من منظور نفسي بصفة عامة، وما يتصل بهذه الطبيعة من نظريات في الشخصية الإنسانية والسلوك الاجتماعي بصفة خاصة بحيث تكون هذه الفرضيات قابلة للفحص و البحث الإمبريقي أو  للبحث المنطقي أو لكليهما، وقابلة للمقارنة بين الثقافات والأديان. كما يمكن أن تشكل هذه الدراسة قاعدة نظرية لدراسات أخرى في الموضوع، ولدراسات نفسية نظرية وامبريقية تتصل بعلم نفس الشخصية والسلوك الاجتماعي من منظور إسلامي.

وفي الواقع، فإن جهود "أسلمة" علم النفس ينبغي أن تبدأ بوضع الأسس النظرية لتصور الطبيعة البشرية من الناحية النفسية من جهة، وتحديد موضوع علم النفس ومنهجه أو مناهجه من جهة أخرى. ولا يخفي أن تصور الطبيعة البشرية من الناحية النفسية لا يمكن فصله عن تصور هذه الطبيعة دينيا وفلسفيا وأخلاقيا إلا فصلا منهجيا بهدف التخصص على أن يكون هذا التخصص متكاملا مع التخصصات الأخرى في العلوم الاجتماعية مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والاتصال وبغيرها من العلوم الإنسانية، و متكامل مع علوم الوحي (العلوم الشرعية) بفروعها المختلفة أيضا.