أبو عرب

 

المصدر: محمود تيمور . مجلة  الهلال ، المجلد 37 ، سنة 28-1929م ، ص 201 وما بعدها.

 

 

         في خيمة حقيرة من الشعر قائمة في مزرعة عماد بك , يعيش الشيخ إبراهيم وزوجته , وأطفاله الستة الذين تراوح أعمارهم بين الثالثة والعاشرة . هم قوم من العرب الرحل يكسبون عيشهم من تربية الأغنام ينتقلون بقطيعهم الصغير من مكان إلى آخر طلبا للمرعى والخصب يستأجرونه من الملاك بأجر زهيد . يخرج الأب في الصباح من خيمته , وخلفه أطفاله الكبار , فيحل أغنامه المربوطة حول الخيمة ويذهب بها لترعى في مكان يختاره لها , ثم يتركها في عهدة أطفاله وحراسة كلبه ( ذهب ) ويقصد إلى الأسواق ليبيع الصوف أو إلى الضياع ليبيع الألبان , وربما وجدته في أوقات فراغه جالسا القرفصاء بجوار قطيعه يدخن التنباك في قصبته , وهو منهمك في غزل صوفه الذي يعده لكساء نفسه وعائلته , وبين فترة وأخرى يعلو في الجو غناؤه ذو الروى الواحد , الذي يشبه في نغمته وتلحينه عواء الكلب الجائع , أطلق عليه الناس اسم ( أبي عرب ) فأصبح لا يعرف إلا به في جميع الأماكن التي يطرقها , هو رجل له هيئة العماليق . إذا سار متلحفا بشاله الأبيض الكبير خلته من بعيد ناقة تهادي في سيرها , إذا استفز للغضب هاج هياج الثور الوحشي , وإذا لوطف أصبح كالحمل الوديع كله بشاشة وطيبة وإخلاص , يحي أولاده الستة حبا يقرب من العبادة , شغوف باللعب معهم , كثير العناية بإطعامهم , وتوفير سبل الراحة لهم . لكلبه ذهب في قلبه مكانة الابن في قلب الوالد , فقد التقطه في الطريق رضيعا , يكاد يهلك من الجوع , وأقام عليه يعتني بأمره , حتى أصبح كلبا كالفحل يحرس قطيعه من الذئاب , ويحمي خيمته من اللصوص , وكأنما تخلق ذهب بأخلاق سيده , فاكتسب منه الشر في موطن الشر , والحلم في مواطن الحلم , تراه ممددا تحت قدمي مولاه ينظر إليه بعينين صافيتين , وأذناه مهدلتان , علامة الاطمئنان والشعور بالهناء , يحرك ذنبه بين حين وآخر حركة ضئيلة من غير تكلف , فتخاله طفلا رضيعا ينظر بابتسام إلى وجه أمه نظرة الرضاء , بعد الرضاع , كثيرا ما يشارك رفاقه – أطفال سيده – لعبهم ومرحهم فيجري بينهم قافزا بجسمانه الغليظ بتظاهر مرة بالهجوم عليهم وأخرى بالهرب منهم , فتخاله شخصا من السذج بين جمع من صبيته المرحين وقد عرف مكانه من العائلة , فإذا التف الجمع حول قطعة الطعام , يغترفون منها للأكل , حشر نفسه بينهم , وجعل يتذوق رائحة الطعام بأنفه , وهو يمسح فمه بلسانه , ويزدرد لعابه جزافا , وأذناه قائمتان تهتزان وعيناه تحدجان القطعة باشتهاء , ولا يخرج من بينهم إلا إذا نال نصيبه كاملا , حينئذ ينسل خارجا ويذهب إلى باب الخيمة فيتمطى ويتمرغ , ثم يعتدل في تمدده ويتوسد يديه الأماميتين , ويبدأ أحلامه الذهبية الجميلة .

      

       غير بعيد عن خيمة أبي عرب قائم منزل عماد بك القديم – ذو الحديقة المهملة الموحشة – الذي يسميه الفلاحون بالسراي . وبالقرب من هذا المنزل توجد دور الفلاحين الحقيرة وجرن الأوسية , وآلة الري البخارية , ثم الترعة التي تشق أطيان الضيعة . هناك بعض التلال العالية , المنتثرة من غير انتظام على إثر تطهير الترعة في السنة الماضية . وكان في سراي عماد بك حركة غير اعتيادية , هي حركة حضور العائلة من مصر لتمضية بضعة أسابيع في الريف , فكنت تسمع أصوات الخدم , مختلطة بصياح السيدة ربة الدار أو السيد صاحب الضيعة يأمران وينهيان وكنت تشم رائحة الخبز , وهو يخبز في الفرن , أو رائحة الطعام الشهي وهو يجهز في المطبخ , وربما لمحت في صحن القصر الداخلي حامد بك بن عماد بك – الغلام الذي لم يبلغ العاشرة بعد – يدور صائحا على حماره الصغير , تحت عرش العنب القديم , أو حول شجرة التوت المهدلة الأغصان فتعلم حينئذ أن الحياة قد دبت في هذا المنزل العتيق .

    

      وكان حامد وحيد أبويه مدللا محبوبا منهما , يقضي وقته مع خادمه مبروك , يصطادان العصافير بالنبل أو السمك بالسنار , أو يلعبان على التلال التي على حافة الترعة ويقذفان الكلاب بالطوب , وقد قامت أخيرا بينه وبين  ذهب مخاصمة كبيرة , نشأت من تحرش الغلام الدائم بالكلب . فأضمر كل منهما لصاحبه العداوة , متربصا إيقاعه في الفخ , فإذا أحس ذهب بوجود حامد ولو على مسافة بعيدة منه , رفع أذنيه باهتمام وجعل يشم الهواء وهو ينظر إلى جهة الغلام نظرة شزراء , مكشرا عن أنيابه , متحفزا للهجوم , ثم يبدأ بنبح نباحا عاليا بنغمة ظاهر فيها الشر . وإذا لمح حامد ذهبا , وكان في رفقة من أتباعه , أمطر الكلب وابلا من الضرب , واحتمى بمن معه إذا هجم الكلب عليه .

 

     وخرج ذات يوم حامد ومعه مبروك , وقصدا التلال يلعبان فوقها كالمعتاد . وكانا وحيدين في هذا الوقت . وصادف أن جاء ذهب ليشرب من الترعة , وبينما هو منهمك في الشرب إذ أصابته طوبة حادة أدمت رأسه , فقفز هاجما على الجاني وقد أحس بأنه لن يكون غير حامد عدوه اللدود . وكان حامد محتميا فوق تل عال مع خادمه , لا يستطيع الكلب أن يصل إلى قمته إلا إذا نجا من وابل الطوب الذي كان الغلام قد بدأ يقذفه عليه . ولكن ذهبا حيوان تتسلط غريزته على عقله ولم يبال بالطوب المنهمر عليه . وكان الشر قد اختمر في رأسه , فأصبح ضبطه متعذرا . ورأى الفرصة سانحة أمامه للاقتصاص من عدوه إذ وجده وحيدا , ليس معه إلا تابعه الصغير .وكأنه شعر بأن الموقعة فاصلة فإما إلى الانتصار الحاسم أو الفشل النهائي , وقامت غريزتا حب البقاء , والشهوة إلى القتال , تدفعانه للمخاطرة , فهجم هجمة الكواسر , مكشر الأنياب , جاحظ العينين , قائم الشعر . وأحس الغلام بالخطر مع مناحة مركزة ، فضعفت همته واختلت أعصابه , وأخذ يصيح بصوت مخنوق ضعيف , يطلب الغوث والنجدة , وهو لا يستطيع التحرك من مكانه . أما مبروك فأطلق ساقيه للريح , وترك سيده وحيدا أمام الخطر . ووجد ذهب الميدان أمامه خاليا فأخذ يصعد التل بوحشية , وقد زاده هذا الانتصار قوة وإقداما , حتى لم يعد يفصله عن الغلام غير مسافة قصيرة لا شك متخطيها في لمحة البصر , ورأى الغلام الكلب صاعدا , وعيناه تقدحان كالنار وشعره قائم كالشوك , فسرت في جسمه قشعريرة هائلة , ولكن بغتة , وقد وجد نفسه أمام خطر الموت , شعر بقوة غريبة حلت فيه فانقلب ضعفه في لحظة إلى قوة واستبسال , وإقدام . ووقف الكلب يستريح وهو ما زال يحدج عدوه بشرر عينيه . ووقف الغلام وقفة الجندي في أشد وأقصى مغامراته الحربية يستعد لمصارعة الموت وجها لوجه . ومضت دقيقة العدوان وهما واقفان أمام بعضهما لا يتحركان كتمثالين أردع فيهما المنال أقوى معاني التحفز للشر , وفي لحظة هجم الكلب هجمته الأخيرة ولكن الغلام كان قد سبقه فحمل حجرا ضخما كان بالقرب منه , وهوى به على خصمه فشج به رأسه وترنح ( ذهب ) وقد بدا الدم الفائر يسيل على وجهه , ويسدل ستارا أحمر أمام عينيه , ثم  نكص على عقبه مضطرا , وهو يحاول النهوض والهجوم من جديد , واختل توازنه فانقلب يتمرغ على التل متدحرجا من أعلاه إلى أسفله , هناك سكنت حركته سكونها الأخيرة , وأحس الغلام دفعة واحدة بضعف قواه فهوى  مكانه على الأرض, وجعل يرتجف كالمقرور وقد علا وجهه صفرة الأموات , وأحدق بذهول في جثة الكلب المطروحة بعيدة عنه , ثم أخذ يتتبع بنظره طريق الدم المرسوم على التل من قمته إلى قاعدته فخاله بحرا من الدماء , أو لهيبا من النار , خشي على نفسه منه فجعل يستغيث صارخا من أعماق قلبه حتى وافاه الخدم من كل صوب وأخذوه إلى القصر للعناية به .

    

        وقامت مناحة في خيمة أبي عرب بسبب مقتل الكلب ( ذهب ) . فكان الأطفال يضجون بالبكاء على رفيقهم بينما كانت الأم تندبه بعين حسرى , كأنها فقدت بموته أحد أطفالها . وعاد الأب إلى الخيمة فهاله أمر الصياح والعويل وسأل ما الخبر ؟ ولكنه لم يحظ بجواب وانقطع الصياح والبكاء على إثر دخوله وصمتت الخيمة إلا من أنفاس ساكنيها ودار أبو عرب بنظره إلى الموجودين فوجد عددهم كاملا , فهرع إلى الخارج حيث مربط القطيع فلم يجد ما ينقصه . ولكنه أدرك أن ذهبا غير موجود . فعاد إلى الخيمة من جديد وصاح في الجميع قائلا : كلكم موجودون إلا ذهبا فأين هو ؟ فلم يجبه أحد . إذن هو الذي تندبونه . هل مات ؟ قال ذلك وقد انقلبت سحنته فصارت كسحنة الثور الهائج . فانكمشت الأفئدة وطأطأت الرؤوس . ولكن كيف مات ؟ أمقتول أم حتف أنفه ؟ هنا تقدمت زوجته في هوادة وأخبرته بمصرع الكلب بيد الغلام ابن صاحب الضيعة . فلم يدعها أبو عرب تتم جملتها حتى قاطعها صارخا : أقسم برأس أبي ثلاثا أن الغلام سيلقى حتفه عاجلا , وبنفس الميتة التي مات بها ( ذهب ) .

     

        ومضت على هذه الحادثة بضعة أشهر نسيها الناس تماما , وكاد سكان الخيمة أنفسهم ينسونها , إذ شغلتهم حوادث الأيام وإحلال كلب جديد محل القديم , تبوأ مركزه بين الأطفال . ولكن أبا عرب لم ينس قسمه . وكان شبح ذهب المخضب بالدماء مائلا دائما أمام عينيه , يحرك كامن شره وانتقامه . ومنذ الساعة التي أقسم فيها قسمه لم يعد بعدها يذكر اسم الكلب , ونهى أفراد عائلته عن التحدث عنه .

  

      وعاد عماد بك كالمعتاد ليمضي بضعة أسابيع في الضيعة . وظهر حامد في صحن الدار الداخلي على حماره يدور به تحت العريش أو حول شجرة التوت , أو في الخارج مع خادمه مبروك يلعبان على التلال . يصطادان العصافير أو يرجمان الكلاب بالطوب ودبت الحياة في القصر من جديد . وأخذ أبو عرب يحوم حول المنزل في خفاء تستر إذا ما جن الليل , وانتشر على الضيعة الصمت والسبات , كما يحوم النسر على فريسته الضعيفة . وكان إذا انتهى من جولاته هذه , وعاد إلى مرعاه جعل يتمرن في الظلام على الرماية بالطوب الثقيل على أهداف أقامها  بعيدة عنه , ولا يدخل خيمته إلا إذا نجح في إصابة الهدف عددا من المرات . واستمر على هذه الحال ليالي متواليات , حتى علم بقرب سفر العائلة فقر قراره على الأمر وعين الليلة التي أراد أن ينفذ فيها عزمه . وكانت ليلة حالكة تلك الليلة التي خرج فيها أبو عرب من خيمته , وجهته سراي عماد بك . كان ملثم الوجه بشاله الكبير , يجعل في عبه كمية كبيرة وافرة من الأحجار المسننة الغليظة التي كانت تثقل خطاه في سيره . وكان يسير ملتصصا بحذر , حتى دنا من سور حديقة القصر . فالتفت يمنة ويسرة , ثم اعتلاه بمهارة وهبط إلى الحديقة في خفة الهرة , فلم يسمع له صوت . وتسلق شجرة كثة الأغصان كمن بين فروعها . ومن ثم جعل يراقب حجرة الغلام بعيني الصقر الجشع . وكانت الشجرة على مقربة من نافذة هذه الغرفة , والنافذة مفتوحة وخالية من القضبان . ومضت ساعة والطفل يدخل حجرته لاعبا , ثم يتركها إلى ردهة المنزل , لا يستقر له قرار في مكان واحد . فتململ أبو عرب في جلسته , وجعل يداعب الطوب في عبه مداعبة عصبية , حتى إذا وجد الغلام آتيا مع أمه تيقن أن ميعاد نومه قد حل . وبعد أن غسلت الأم وجه طفلها , خلعت ملابس يومه , وألبسته ملابس النوم . ثم حملته إلى السرير لتضعه فيه . فأمسك الغلام برقبتها , لا يريد فراقها وانهال يقبلها , ويحتضنها وهو يهمس في أذنها من كلمات المحبة ما استطاع فؤاده الساذج أن يعبر بها . فضمته إلى صدرها بشغف , وجعلت تحدق النظر إليه بمحبة شرهة . ثم أخذت تقبله بكل ما أودعه الله في قلبها من حنو مهما عملت لن تستطيع إشباع نفسها منه . وكانت في أثناء ذلك تداعبه وتضاحكه وتصغي إلى صوته المرح , كما يصغي الفنان إلى شجي ألحانه . واستمرت هذه الملاطفة أمام أبي عرب برهة ليست بقصيرة كان الرجل في أثنائها يحدق فيها بعجب ودهشة . وبغتة لمعت ابتسامة خفيفة على وجهه أخذت تتسع رويدا وبدأت ترتسم على ملامحه مظاهر الغبطة والسرور ... وتنهد طويلا ... وفي لحظة اختفت نظرة الصقر المفترس وحلت مكانها نظرة الحمامة الوديعة . وتلاشى مظهر الثور الوحشي , وحل محله مظهر الحمل المستأنس الهادئ . وشعر الرجل بوخز الخناجر يدمي فؤاده . ثم أحس بغمامة مرت على عينيه تركت فيها بضع قطرات من الدموع . ولم يشأ أن يترك المكان حتى يرى الطفل نائما بسلام . ومن ثم هب إلى الأرض وعاد من حيث أتى . وقد أفرغ  في الطريق حمله الذي كان ينقله . وما كاد يدخل خيمته حتى قصد إلى ولده الذي في عمر حامد , وأخذه بين ذراعيه , وجعل يحتضنه ويقبله بحنان ملتهب . ثم انتحى ركنا منفردا في خيمته وأخذ يبكي كالأطفال ...