حقول الجميل

في الشعر الجاهلي

 

- مقدّمة

- حقل الجميل في المرأة

- حقل الجميل في الفارس

- حقل الجميل في الحصان

- هوامش

 

مقدّمة

       لقد عكس الشعر الجاهلي مجموعة من القيم الجمالية ، من أبرزها الجميل والقبيح والتراجيدي والجليل ، ولكنـه قصَّر في تناول قيمة الكوميدي ، ربما لأنّ الطابع العام للحياة الاجتماعية والفلسفية في العصـر الجاهلي كان طابعاً تراجيدياً غالباً .

       و عبّر عن هذه القيم من خلال نظـام بنائي جمالي مميّز انسجم وطبيعة تلك القيم . ولعلّ ما يؤكد احتفاء الشعر الجاهلي بالجميل - وهو مجال بحثنا - لجوؤه الواضح إلى التعبير عن كل ما يُثير الراحة في النفس ضمن قنوات الأركان الأساسية في الحياة الجاهلية : المرأة والفارس والحصان ، وجمال الحياة الاجتماعية الذي لا يتأتى إلا من خلال الهدوء والتفاعل الإيجابي الذي يوفّره السلام بين القبائل .

      لقد قطع الشعر الجاهلي مسافات بعيدة  فـي تعامله المميّز مع القيم الجمالية التي غدتْ ، فيما بعد ، " مُثُلاً جمالية " ظلّ الشعر العربي مئات السنين يعتبرها قانونَه الأوحد.

      وبكل أ سف فمعظم النقد العربي الذي تناول هذا الشعرَ أغفلَ كثيراً من جوانب الإبداع فيه من منظور جمالي تأسيسي لكافة القيم التي انتهجها الشعر العربي في العصور اللاحقة . وكان دائماً ينظر إلى الشعر الجاهلي على أنه مجموعةٌ من حالات التوصيف والأغراض و التشابيه .

       يشكل هذا البحث منظومةً مع ثلاثة أبحاث أخرى* تتكامل معاً لترسم صورة لأصول نشوء " المُثُل الجمالية " في الشعر العربي ، وبخاصة " عمود الشعر " ، الذي نشأ في العصر الجاهلي ، وغدا – فيما بعد ، كما نعلم – " مَثَلاً جماليّاً " للشعر العربي في العصور اللاحقة حتى العصر الحديث مدعوماً بالوعي الجمالي التقليدي .

      وسيتمّ البحث في ذلك من خلال دراسة أبرز القيم الجمالية التي عكسها الشعر الجاهلي إلى جانب دراسة جمالية الشكل الفني التي ساهمت بالتعبير عن القيم المذكورة أو بتجسيدها . ولعلّه من خلال التكامل بين القيم الجمالية وشكلها الجمالي نستطيع تبيّن الملامح الأساسية لأصول " المُثُل الجمالية " التي ذكرناها .             

       والقيمةُ التي سيتناولها هذا البحث هي قيمة الجميل . ولعلّها تكون – لو تجاوزنا التراجيدي – القيمةَ الأبرز التي شكّلت الهاجسَ الأسمى للشاعر الجاهلي 0

       نحن  نُدرك  أنّ  من  يضعُ  مثل  هذا  العنوان الواسع  لبحث قصير كهذا كمَن لا يريد أن يضع  عنواناً معيناً . ولكن لهذا العنوان ما يبرّره . فنحن - على الرغم من ظنّنا أن لكل شاعر جاهلي خصوصيتَه , وتميّزَه في تناول الأشياء فنياً وجمالياً - نعتقد أنّ الشعر الجاهلي يشكّل ظاهرةً واحدة ذات ملامح متكاملة ، وقد تعامل مع العالم الخارجي والقيم الجمالية ضمن توجّهٍ شبهَ موحّد ؛ أعني أنه كان يتعامل مع الأشياء المحيطة ، ويعكسها بأشكال متقاربة نسبيّاً . فالحديث عنَ القيم الجماليةَ عنَد شاعر جَاهليِ يمكنُ تعميمُه _ ضمن الإطار العام _ على معظم شـعراء الظاهر الواحدة ، أي شعراء العصر الجاهلي دون استثناء .

    وهذا العنوانُ أيضاً  ينسجم - إلى جانب ما تقدم - مع توجّه " علم الجمال " الذي يتناول عادةً القوانين العامة للظاهرة الإبداعية . وبمعرفتها يمكنُ التغلغلُ إلى أدقّ  تفاصيل الإبداع وسببها .      

      لقد تناول الشعر الجاهلي مجموعة من القيم الجمالية ، هي : الجميل والقبيح والتراجيدي والجليل . ولكنّ الملاحظ أنّ هناك تفاوتاً في تعامله مع هذه القيم . فبينما يأخذ " الجميل " حظاً أوفر  ، يأتي "التراجيدي " في المرتبة الثانية ، ثم " القبيحُ ، فالجليلُ " .ونكاد لا نعثرُ على " الكوميدي " فيه لأسباب سنتناولها في حينها .

       سنتوقف ، فيما يلي ، عند الجميل بوصفه مفهوماً ، وسنحاول تحديدَ ملامحه في الشعر الجاهلي ، وهل استطاع هذا الشعر أن ينقلَه من حيّز المفهوم إلى حيّز القيمة ؟ وإذا استطاع هذا  ذلك ، فهل من الممكن اكتشاف ملامح " المَثَل الجمالي " الذي كان سائداً في العصر الجاهلي ، وانتقل – فيما بعد – إلى العصور التالية ؟

       " الجميل في الحياة " مرتبطٌ بالسلوك الحسن والمريح ، وهو ، في المظهر الحسي للكائن ، مقدارٌ معيّنٌ مـن التناسـق والانسجام الذين يثيران الراحةَ والاطمئنان في النفس . وهو ، في الفن،  يعني تأكيدَ الفنان على كل ما هو جميل ، وتجسيده عبر الصورة الفنية الحية . ومهمّةُ الناقد أن يستخرجَ " قيمةَ الجميل " هذه من النص ، ويحدّد ملامحها ، وكيفيّتها ، ثم ينتقل إلى تقويم الجميل عبر تحوّله من " المفهوم " إلى " القيمة " ،  وما يُصاحِب ذلك من  تحوّلات  على  صعيد النص .

       و" الجميل في الفن " ، كما يؤكّد علماء الجمال ، أكملُ منه في الطبيعة ، لأنه ، أي الجميل في الفن يتضمّن الجميلَ في الطبيعة مضافاً إليها تفّرد الفنان وخصوصيته ، ووحدة الصورة الفنية التي لا تتكرّر 0

      وللجميل وجهان أساسيان لا يتمّ إلاّ بتكاملهما وتفاعلهما معاً 0 وجهٌ حسيّ مرتبط بخارج الشيء ومظهرِه 0 وهو يتعلّق بكلّ ما تقع عليه الحوا س ، وبخاصة حاسة البصر ، ووجهٌ باطني ، روحي لا يُرى إلا عبر السلوك ، واستطالاته المختلفة 0                                      

ومن ميزات الوجه الحسي للجميل التناسقُ بين أجزاء الشيء ، والتفاعل فيما بينها ، والتوازن ، وعدم التنافر 0 فهو ، في الإنسان ، تناسـقٌ في المظهر ، وتكاملٌ في الجوهر 0 وهو ، في الفن ، تفاعلٌ بين شكل الصورة ، ومحتواها 0

    والجميلُ لا يكونُ كذلك إلا ضمنَ الانسجام بين وجهيه الخارجي والباطني ، الحسّي والروحي 0 ودون ذلك يشتدُّ التنافرُ ، فيكون " القبيح " ، أي إنّ " الجميلَ " يكون باتفاق الجانبين ، وبغيرهما يصبح ناقصاً ، وينحدر ليصبح " قبيحًا " 0 

    والجميل في الفن ، أعني في الشعر الذي هو مادة دراستنا هذه يتمثّل في قدرة الشاعر على رسم صورة فنيّة ناجحة ضمن مواصفات محدّدة ، تنطوي على مقدارٍ فسيح من التأثير 0                                                    

        وقد تناول الشعر الجاهلي كثيراً من الأشياء  ا لجميلة  ،  فجسّدها في صور فنية حيّة ، أو عبّر عنها   بشكل  تقريري مباشر 0 ويمكن  توزيعُها  إلى مجموعة من الحقول ، أبرزها المرأة ، والفارس ، والسّلام بوصفه نقيض الحرب ، والفرس ، والطبيعة 0وسنتوقف ، فيما يلي،  عند كلّ واحدٍ من هذه الحقول بإيجاز شديد ، لأنّ الغايةَ ليسـت في سردِ الظاهرة ، وإنما في تسجيلِ نتائجِها التي يمكن تعميمُها ، فيما بعد ، على الظاهرة بالكامل :

                                                               

أولاً - حقلُ الجميل في المرأة

       لابد من الإشارة سلفاً إلى أن الشعر الجاهلي جسّد القيمَ الجمالية ، وضمنها الجميل ،  عبر تمظهرِها الحسّي على حساب ما هو روحي . وكان يسعى إلى تغليبِ هذا الجانب في الصورة الفنية التي صاغَ من خلالها تلك القيم . ومما يؤكّد ذلك - بالنسبة إلى جمال المرأة - التركيزُ على " جمال الجسد " ،  والتوغل في تفاصيله بشكل مباشر ، وربطِه بالحركة ، وربطِ تلك التفاصيل والحركة بالمحيط الصحراوي الذي ينتمي إليه 0

       وبإمكاننا أن نسـتعرضَ بإيجاز بعضَ ما وردَ في هذا المضمار الذي يمكن تعميمه - فيما بعد - على بقية الشعر الجاهلي 0 ويمكن القول : إن الشعر العربي في العصور التالية ظلّ يتعامل مع هذه الصورة التي رُسِمت لجمال المرأة على أنّها من المسلّمات ، وباعتبارها " مَثَلاً جمالياً " ، يكون الشعر جميلاً إذا قاربَها ، ويكون قبيحاً إذا ابتعد عنها 0

    فقد  شـبّهَ الشاعر الجاهلي عنقَ المرأة بعنقِ الظبية لِما يتميّز به هذا الأخيرُ من رشاقةٍ ، وحسن 0 فزهير بين أبي سلمى يقول :

             فأمّا  ما فويقَ  العقدِ   منها         فمن  أدماءَ  مرتعُهاِ  الخلاءُ  (1)

  ويؤكد امرؤ القيس هذا بقوله :

        وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ       إذا   هـي  نصّتـهُ   ولا بمعطّلِ (2)      

 ويشبّه عبيد بين الأبرص مجموعةً النساء بمجموعة من الظباء قائلاً :

             إذا   جاء   سـربٌ   يَعُدْ نهُ       تبادرن  شتّى كلهنّ  تنوحُ 

 أي إذا جئن يزرْنه خرجن مسرعات متفرّقات يَنُحن لقطعهنّ الأمل منه (3) 0 واعتبر هؤلاء أن جمال عيني المرأة يكمن في اتساعهما ، وشبهوا ذلك بعيني " المها " لما فيهما من اتساع يوحي بجمال أخّاذ ومؤثر 0   وزهير يقول في هذا :

             وأمّا  المقلتانِ  فمن   مهاةٍ          وللدرِّ   الملاحةُ   والصفاءُ (4)

    والنابغة يقول أيضاً :

                     نظرتْ بمقلةِ شادنٍ  متربّبِ          أحوى  أحمِّ المقلتين  مقلّدِ (5)

 وربط هؤلاء الشعراء تأثير جمال العينين الواسعتين بالسهام 0 وقد عبر امرؤ القيس عن ذلك قائلاً :

         وما ذرفتْ عيناكِ إلا لتضربي           بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مقتّلِ (6)

 وربط الشاعر الجاهلي جمالَ فم الحبيبة برائحة المسك ، ورائحة أوّل المطر الذي يُصيب روضة خالية 0 يقول عنترة مؤكداً ذلك :

        وكأنّ  فارةَ  تاجرٍ    بقسيمةٍ          سبقتْ عوارضَها إليكَ من  الفمِ  

        أو روضةً  أُنفاً تضمّن   نبتَها           غيثٌ  قليلُ  ا لدّمن ليس  بمعلَمِ
        جادتْ  عليهِ كلّ بِكرٍ  حرّةٍ            فتركْن  كلّ  قرارةٍ   كالدّر هم

        سحا وتسكابا  فكل   عشية            يجري   عليها  ا لماءُ  لم يتصرّ مِ (7)

    ولا يكفي أن يكون لفمها رائحةُ المسك أو الروضة ، بل ينبغي أن يتزيّن هذا الفم بأسنان نظيفة ليتكامل المشهدُ الجميل على الصعيد الحسي 0 والأعشى يقول في هذا :

    غرّاءُ  فرعاء  مصقول  عوارضُها      تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحِل (8)

    وينتقل الشعراء في العصر الجاهلي إلى التوقف عند تفصيل آخر ليستكملوا به جزئيات اللوحة الجميلة للمرأة 0 ومن ذلك  أنهم ربطوا جمال شعرها  بالسواد ، والكثافة ، والطول ، والتداخل 0  يقول امرؤ القيس في هذا :

         وفرعٍ يَزينُ المتنَ أسودَ  فاحمٍ          أثيثٍ  كقنو   النخلة   المتعثكلِ            

         غدائرُه  مستشزراتٌ إلى العلا          تَضِلّ العقاصُ في مثنى و مرسل (9)

  ويؤكد ذلك النابغة قائلاً :

         و بفاحمٍ   رَجْلٍ   أثيثٍ  نبتُهُ           كالكرم مال على الدّعام المسندِ (10)

واذا كان الشعراء اعتبروا أنّ شَعر المرأة يزداد جمالاً كلّما ازداد سوادُه ، فقد اعتبروا مقابل ذلك أن جمال الوجه يكمن في شدة بياضه 0  يقول امرؤ القيس را سماً صورةَ  وجه حبيبته :                                                                        

وبيضةِ   خدر  لا يُرامُ  خباؤها     تمتّعـتُ من  لـهوٍ بها غيرَ مُعجلِ                   تجاوزتُ   أحراساً   إليها   ومعشراً         عليّ  حراصاً   لو   يُشرّونَ   مقتلي(11)

وينبغي أن يرتبـط جمال المرأة بلطف خصرها ، وابتعاده عن الترهّل ، كما يقول امرؤ القيس في ذلك :

      مهفهفةٌ  بيضاءُ  غيُر   مفاضةٍ          ترائبها  مصـقولةٌ  كالسجنجلِ ( 12) 

ومقابل ذلك ينبغي أن تكون ذات عجيزة بارزة ،كقول الأعشى :

           هركولةٌ  فنقٌ  درمٌ  مرافقُها        كأنّ أخمصَها  بالشوكِ  منتعلُ (13)

  وحتى يكتمل المشهد الجميل للمرأة لابدّ من أن يكون كلُّ شيء فيها مرتوياً بالماء العذب ، كما يقول امرؤ القيس :

      كبكرِ المقاناةِ البياضِ   بصفرةٍ       غذاها   نميرُ  الماء  غيُر   المحلّلِ

      تصدُّ وتبدي  عن أسيلٍ وتتّقي       بناظرةٍ من وحشِ وجرةَ مُطفلِ ( 14)

  وحين تكتنزُ المرأةُ كلَّ هذه السمات السابقة ، فهي بالمقيا س الشعري الجاهلي " جميلةٌ " ، ولها أثرٌ طيّبٌ ومريح بالنسبة إلى مَن حولَها ، كما يقول الأعشى :

          ليست كمَن يكرهُ الجيران طلعتَها      و لا تراها  لسرِّ الجار   تختتلُ (15)

    ومثلما توقّف الشعراء الجاهليون عند تجسيد الجمال الخارجي في المرأة توقفوا أيضاً عند الجمال الداخلي / الروحي لها على الرغم من مساحته الصغرى بالنسبة إلى المستوى الأول ، مثل " الخجل والعفة والكبرياء والهدوء "0 وكانوا دائماً يربطون بين جمال الخارج والداخل بغيةَ رسم لوحة متكاملة لذلك " الجميل "0

       ولم يكتف الشـعراء برسم ملامح ل " الجميل " في المرأة فحسب ، وإنما تناولوا تأثير هذا الجمال في الفارس لتكتمل الصـورة الفنية ، وتأخذ بُعداً درامياً مثيراً في النص 0

       إن الفارس - في العصر الجاهلي - كما صوّره الشعرُ حين يلتقي بالمرأة الجميلة صاحبةِ المواصفات السابقة يستسلم ، وسوف يكون على استعداد لفعل أي شيء من أجل بلوغه 0 وسنلاحظ أن هذه السمة الأخيرة في الفارس ستكون من أبرز المعطيات التي تجعله بنظر القبائل آنذاك جميلاً ، ومحلّ احترام وتبجيل كما سنرى  لاحقاً 0

        يُلاحظ مما سبق أن الشعراء الجاهليين لم يتركوا شيئاً في المرأة إلا عبّروا عنه أو جسّدوه في صور فنية 0 وقد كان تركيزهم على الجمال الخارجي الذي هيمنَ على الجانب الروحي بشكل واضح 0

          يمكن لنا الآن أن نتساءل عن المرجعيات التي استقى منها ذلك "الجميلُ " ملامحه المذكورة 0 والمرأةُ التي رسمها الشاعر الجاهلي ، هل كانت امرأة مفترضةً ، أو واقعاً  قام بتسجيله ؟ بعد دراسة متأنية لهذا الجانب توصّلنا إلى أنّ المرجعيات التي اعتمدها الشاعر الجاهلي في رسم الملامح المذكورة للجميل في المرأة هي ثلاث :

           1 - : البيئة التي ينتمي إليها الشاعر الجاهلي ، والذوق الاجتماعي السائد آنذاك ، والمرأةُ البدوية بما تمتلكه مـن قوة الحضور في وجدان الشاعر 0

           2- : الأساطير التي كانت سائدة في العصر الجاهلي  لنساء ، مثل " إنانا وعشتار وأفروديت وعناة وفينوس " 0

           3- : صورة المرأة لدى الأمم الأخرى التي أنتجتها حالة المثاقفة بينها وبين القبائل العربية عبر التواصل المباشر ،كالمرأة الرومية والمرأة الفارسية 0

                  وقد ساهمت المرجعيات المذكورة معاً في صياغة نموذج " الجميل " للمرأة في العصر الجاهلي 0

       والسؤال الآن كيف قدّم الشعراء ذلك النموذج ؟  لاحظنا – من خلال النصوص التي اخترناها – أنهم قدّموا "نموذج الجميل" عبر الصورة الفنية التي تتميز بالحسية والحركة 0 ومما زاد في  حسّيتها  اختيارُ مفردات تعبّر عن هذه الحسية ، وربط كل ذلك بأشياء مرئية مثل الظباء وغيرها ، وربط الحسية بالحركة بهدف تقديم المشهد المشخّص ، إلى جانب أن التشبيه كان هو العنصر الأساسي الغالب على تكوين الصورة الفنية 0 وربما كان لطرفيه الحسّيين بشكل دائم أثرٌ كبير في دعم حسية الصورة الفنية وحركتها 0

       أما الطريقة الثانية التي لجأ إليها الشاعر الجاهلي في تقديم نموذج الجميل فكانت عن طريق التعبير المباشر الذي لم يكن أقلَّ تأثيراً من الصورة الفنية 0 ومما رفعه إلى مستواها التدفّق المستمر للشّحنات العاطفية فيه التي كانت ترتبط غالباً بعملية توصيف الجميل 0

       إن "الجميل "  في الشعر الجاهلي بالنسبة إلى المرأة كان " قيمة جمالية " ، ولكن الشعراء - ومعهم النقاد - في العصور التالية جعلوا  منه  " مَثَلا جمالياً  " اقتدوا به وحاكوه ، أعني أن " المثَل الجمالي " للمرأة صاغَه مَن جاء من الشعراء في العصور التالية 0 وظلّ كذلك حتى العصر الحديث لدى شعراء التيار التقليدي 0 ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد ، وإنما تخطّى ذلك إلى اعتماد الشعراء - فيما بعد - على الوسائل التي صاغته كالتشبيه والحسية والحركة ، واستخدام بعض المفردات والتراكيب التي استخدمها الشعراء الجاهليون  في تجسيد الجميل في المرأة ، أو توصيفه ، أو التعبير عنه من قبيل اعتبار ذلك - غالباً -  " مَثلاً جمالياً " ، وأحياناً اعتباره شكلاً من أشكال التراث ينبغي تقديسه عبر محاكاته 0

 ثانياً - : حقل الجميل في الفارس :  

       مَن يقرأ الشعر الجاهلي يقع على سمات تكاد تكون واحدة فيه ، ترسم صورة "الجميل " في الفارس 0ومن يقرأ " معلقة عنترة " فإنها تكفيه لتجسيد هذه الصورة ، من خلال مقاربتها الشديدة لها 0 وما يرِدُ فيها يمكن تعميمه على بقية الشـعر الجاهلي ، واعتباره نموذجاً له فيما يخصُّ " الجميل " في الفارس 0

     ومما يجعل الفارس جميلاً توفّر السمات التالية فيه :

1-: الشجاعة في الحرب ، وعدم الخوف 0 يقول عنترة :

           هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ       إن  كنتِ جاهلةً  بما لم  تعلمي

           يخبرك  مَنْ شهدَ  الوقيعةَ أنني       أغشى الوغى وأعفُّ عند  المغنم (16)

  ويؤكد الشنفرى ذلك بقوله :

          و لأخرق   هيقٍ  كأنَّ  فؤادَهُ         يظلّ   به المكّاءُ   يعلو ويسفلُ (17)

  وتَعتبر الخنساء أنّ الشجاعة هي  أفضلُ ما ا تّصف به أخوها صخر :

          وإنّ صخراً لمقدام  إذا  ركبوا          وإنّ صخراً  إذا جاعوا  لنحّارُ (18)

 2-: القوة والبراعة في فنون القتال ، وهما سمتان متلازمتان في الفارس 0 ويؤكد عنترة ذلك بقوله :

          و مدجّجٍ كرِهَ  الكماةُ   نِزالَهُ          لا  ممعنٍ  هرباً  و لا مستسلمِ 

          جادتْ له كفي  بعاجلِ  طعنةٍ         بمثقّف صدْقِ  الكعوبِ  مقوَّمِ

          فشككتُ بالرمح الأصمِّ ثيابَه          ليس  الكريمُ  على القَنا بمحرَّمِ

          فتركتُه  جَزْرَ  السّباعِ  يَنُشْنهُ          يقضمنَ  قلّةَ  رأسِه  والمعصمِ (19)

3-: الاسـتقلال ، وعدم التبعية 0 فالفارس يفعل ما يمليه عليه عقله وحسّه ، بما لايتنافى ومصلحة القبيلة 0 ويعبّر عنترة عن ذلك قائلاً :

         ذُلُلٌ ركابي حيث شئت مُشايعي        لبّي و أحفزُه    بأمـرٍ   مُبرمِ (20)

 4-: الكرم في المال ، والأخلاق ، وعدم قبول الظلم 0 يقول عنترة في معلقته مفصّلاً ، ومؤكداً هذه الدلالة :

        أثني  علي   بما    علمتِ   فإنني       سمحٌ  مخالقتي  إذا   لم   أُظلمِ

        وإذا  ظُلمتُ  فإنّ  ظلميَ  باسلٌ       مرٌّ  مذاقتُه    كطعمِ   العلقمِ

        واذا صحوت فما أقصر عن ندى      وكما علمت شمائلي وتكرمي (21)

  ويردّد عروة بن الورد كثيراً مفهوم الإيثار ، ويعتبره من أبرز واجبات الفارس :

        أقسّم  جسمي في جسومٍ  كثيرة        وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ (22)

5-: ومن سمات جمال الفارس كما جسدها الشعر الجاهلي الالتزام بقوانين القبيلة ، والدفاع عنها ، لأنّها هنـا بمثابة الوطن ، والدفاع عنها هو شكل من أشكال " الوطنية " 0 يقول طرفة بن العبد مؤكداً ذلك :

       إذا القومُ قالوا مَن فتى خِلتُ أنني       عُنيتُ ، فلم  أكسل  ولم  أتبلدِ (23)

ويقول عنترة وهو يفصّل هذه المهمة :

        لما  رأيتُ  القومَ  أقبل   جمعُهم      يتذامرون  كررتُ  غيرَ    مذمَّمِ

        يدعون  عنترَ  والرماح   كأنها      أ شطانُ  بئر في  لَبانِ     الأدهمِ

        ما زلتُ   أرميهم    بثغرةِ  نحرِه     و لبانِه    حتى  تسربلَ      بالدم

        ولقد شفى نفسي  وأبرأ سقمَها     قيلُ الفوارس  : ويكَ  عنترَ  أقدمِ (24)

6 -: ومن سماته الجميلة ارتباطُه بامرأة جميلة ، وتخطّي الصعاب من أجلها 0 ولعل قراءةً سريعة لمعلقة عنترة مرة أخرى تؤكد لنا أن صورةَ ابنة عمه " عبلة " كانت تلازمه بشكل دائم حتى ليظن المرءُ أنه لم يكن يقاتل ، أو يخوض الصعاب والملمّات إلا لأجلها 0 فهو يجسّد في المعلقة مجموعة من المعارك التي خاضها وحدَه  أو مع الجماعة 0 وكان يُقدّم لكل معركة منها بذكر "عبلة"0

       فهو يبدأ المعلقة بالبحث عن دار عبلة ، ثم يحيّيها بعد أن يجدها ، ثم ينتقل إلى رسم "الجميل " في عبلة ، ويربط – بعد ذلك – بين  قتاله للأعداء  ،  وصورتها  التي تتبعُـه دائماً 0 " الأبيات : 34- 35- 40- 43- 46- 57 – 58- 59- 60- " 0 ومن يتأمل هذه الأبيات ، ومواقعها  في سياق ا لمعلقة  يتأكد  أنه مما يجعل  الفارس أكثر جمالا هو ارتباطه بامرأة جميلة ، إلى جانب طبيعة الطرح الفنّي لمثل ذلك الارتباط 0

7-: ولكن الأمر اللافت للنظر الذي يثير الغرابة والدهشة أن الشعراء الجاهليين الذين اشترطوا  لجمال الفارس كل السمات السابقة لم يشترطوا  من بينها الوسامة ، أي جمال المظهر الحسي ، بل اعتمدوا في إبراز ذلك على الفعل فحسب 0 ولم يتطرقوا إلى ذلك ضمن معلوماتنا عن الشعر الجاهلي 0 فامرؤ القيس مثلا حين يتجاوز الحرّا س والفرسان الأشداء لمقابلة حبيبته لا يتطرّق إلى شيء من وسامته ، وعنترةُ يذكر أشياءَ كثيرة دون أن يعتبر أن الوسامة جزءٌ من جمال الفارس ، وكذلك فَعَل عمرو بن كلثوم ، وطرفة ، وغيرهما 0

       والأمرُ الثاني الأكثر غرابة أن الشعر الجاهلي ربط جمالَ المرأة بما هو خارجي وظاهر منها ، ومرئي ، أي بجسـدها ، بينما ربطَ جمالَ الفارس بما هو داخلي وروحي ، ومتعلّق بالفعل 0 

     ويمكن اعتبار أن أهمَّ مصدر ساهم في رسم صورة "الجميل " للفارس في الشعر الجاهلي هو الخيال الشعبي ، وطبيعة الصحراء ذات الأبعاد غير المحدودة ، والمعارك الدائرة المستمرة بين القبائل آنذاك 0

     وقد قدّم الشعراء "قيمة الجميل " هذه ضمن الشروط نفسها التي مرت في تجسيد جمال المرأة ، أي عن طريق الصورة الفنية ذات الطابع الحسي المرتبط بالحركة ، ومركزُها الأساسي التشبيه ،أي الثنائية 0 وكذلك عن طريق التعبير المباشر 0    

      وظلّت صورةُ الفارس المذكورة ذاتَ فعل قوي في الشعر العربي فيما بعد من خلال محاكاته لها ، وتكراره لسماتها ، وبعض مفرداتها وتراكيبها ، وبعض الصور الفنية التي استخدمها الشاعر الجاهلي لصياغتها 0 ويمكن القول : إنها انتقلت فيما بعد كصـورة المرأة إلى " مَثَل جمالي"  لا يفتأ الشـعراء يرددونها ، ويخلعونها على القُوّاد ، والأبطال الذين يحبونهم أو يعجبون بهم 0

       ومما ساعدَ على دعم تلك السمات وحضورها في الشعر العربي -  فيما بعد - السيَرُ الشـعبية العربية ، وتمجيدُها للفارس القوي ،المتمرّس ، الكريم ، الذي يحبُّ أهلَه ووطنه ، ويدافع عنهم 0 ولا بد من الإشــارة إلى أنّ السيَرَ الشعبية - بما  أضفتهُ على ا لفارس من سـمات - أســهمت في نقـله من " حقل الجميل " إلى " حقل الجليل " 0

   ثالثاً -  حقل الجميل في الحصان

       لقد وقف الإنسان في العصر الجاهلي أمام الحصان باحترام شديد ،وكان يعتبره صديقاً وفيّاً ، وكانت علاقته به  دائماً  حميمية  ،  لذلك شغلَ الحصان حيّزاً هامّاً في وجدان الشاعر ، فجسّده في أبهى الصور وأجملها 0 ولا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الجاهلي صوّرَ الحصانَ عبر حالتين : صوّرَه واقفاً  ساكناً ،  وصوّره  متحرّكاً  في  الصيد والمعارك  ،  ولم  ينسَ أن يُطِلَّ - أحياناً - على إضاءة جمال عالمه الداخلي من خلال تجسيد علاقته المباشرة بفارسه 0

       و سنسردُ ، فيما يلي ، بإيجاز شديد أبرز العناصر التي جعلت من الحصان ، على الصعيد الشعري ،  جميلاً 0

              1-: السرعة في العدو ، والسرعة في الذهاب والإياب ، والمراوغة في الحرب ، والصيد ، وخفَّة الجسد 0 ونكاد لا نجدُ شاعراً لم يضمّن جمالَ الحصان هذه السمة 0

   يقول امرؤ القيس :

       مكرٍّ   مفرٍّ   مقبلٍ   مدْبرٍ  معـاً     كجلمودِ صخرٍ حطّهُ السيلُ من علِ

       مسح إذا ما السابحات على الونى     أثرنَ   الغبارَ     با لكديد    المركّلِ

       يَزِلُّ ا لغلامُ  الخفّ عن   صهواته     ويُلوي   بأثواب   ا لعنيف   المثقلِ (25)

 ويقو ل لبيد في ذلك أيضاً :

        رفّعتُها   طردَ  ا لنّعامِ    و شلَّهُ     حتى  إذا  سخنتْ  وخفَّ   عظامُها

        قَلِقتْ رِحالتها  وأسبلَ   نحرُها     و ابتلّ  من   زبدِ   الحميمِ   حزامُها (26)

              2-: كان الشعراء يفضلون أن تكون الألوان الفاتحة هي أول ما يبدو للناظر في الحصان ، كالأحمر الفاتح ، والأبيض المطعّم بقليل من السواد ، إلى جانب أن يكون شَعْرُه قصيراً ، وظهره ناعماً ، أملس 0

   يقول امرؤ القيس :

           كُميتٍ يَزِلُّ اللبدُ عن حالِ مَتنهِ        كما  زلّتِ  الصفواءُ  بالمتنزّ لِ (27)

    ويقول عنترة مؤكّداً اللونَ الآخر :

           يد عونَ  عنترَ  والرماحُ   كأنها        أشطانُ   بئرٍ في  لَبانِ  الأدهمِ (28)

 ذلك كان لون الحصان في السلم ، أما لونه المفضّل في الحرب ، فهو اللّون الأحمر 0 ومن الصّور الأثيرية التي تتردّد كثيراً في الشعر الجاهلي و التي يحلو لكثير من الشعراء ترديدها  اصطباغُ صدر الفرس  بالدماء   بسـبب  قدرته  الهائلة  على  الاقتحام 0 و قد  أكّد عنترة ذلك بقوله :

          مازلت  أرميهم   بثغرة    نحره         ولبانه   حتى   تسربل    بالدم (29)

       وامرؤ القيس يرسم مشهداً لحصانه ، وقد ابتلّ بدماء الهاديات " والصيد في مثل هذه الحالة هو إعلان حرب على الطّرائد بمختلَف أشكالها وحالاتها 0 والّلحاق بها وتقييدها يعني انتصاراً في الحرب عليها ، يبعثُ غالباً الشعورَ بالرفعة والسّموّ لدى الشّاعر المنتصر لا يقلّ قوّةً عن الشعور نفسه الذي يتشكّل بعد الانتصار في الحرب على الأعداء "  :

          فألحقَنا   بالهادياتِ      ودونه           جواحرُها في صُرّةٍ  لم  تزيّلِ

          كأن  دماء  الهاديات    بنحره          عصارة حناء بشيب   مرجل (30)

              3-: ويقدم الشاعر الجاهلي لوحةً تشكيلية لحصانه وهو واقف من جهات متعددة 0 يقول امرؤ القيس :

         له  أيطلا  ظبيٍ وساقا   نعامةٍ          وإرخاءُ سرحانٍ  وتقريبُ   تتفُلِ

        ضليعٍ إذا استدبرته سدَّ فرجَهُ          بضافٍ  فويق الأرض ليس بأعزلِ (31)

                4-: والحصان يزداد جمالاً بقدر ارتباطه بفارسه . ولهذا الحصان ميزاتٌ لخّصَها امرؤ القيس في معلقته ، وأتمّها عنترة 0

   يقول امرؤ القيس ، راسماً صورة لحصانه خلال الصيد ودوره الكبير فيه ، وكذلك إعجابه به ، و محبته له ، وحنوه عليه 0

             فألحَقنا   با لهاديات   و  دونه        جواحرُها  في صُرّةٍ  لم  تَزَيّلِ (32)

وبعد انتهاء الصيد ، وقف الجميع ينظرون إلى الحصان باحترام شديد:

            ورحنا يكاد الطرفُ يقصُرُ دونَه       متى ما ترقَّ  العينُ فيه  تسفَّلِ (33)

ويرسم عنترة صورة أخرى لهذه الحميمية من خلال علاقته بحصانه خلال المعركة :

          فازورَّ  من  وقْعِ   ا لقنا     بلبانه      وشكا   إ ليّ   بعبرةٍ    وتحمحُمِ

        لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى       ولكان   لو عَلِمَ  الكلامَ  مكلّمي (34)

ولعل السـمة الأكثر جمالاً في علاقة الحصان  بفارسه هي  انقيادُه التامّ له . يقول عمرو بن كلثوم :

           و سيّدِ  معشرٍ  قد   توّجوهُ         بتاجِ  الملكِ  يحمي المحجرينا

           تركنا  الخيلَ  عاكفةً   عليه         مقلّدةً     أعنَّتها     صفونا (35)

  ولا بد من الإشارة إلى أن الصور السابقة للحصان قُدّمت مصحوبة بإعجاب الشاعر الشديد بحصانه في الحرب والسلم والصيد 0 وقد وُضع كل ذلك ضمن الصورة الفنية ذات الطابع الحسي والحركة الدائبة 0

 رابعاً -  نتائج   

       من خلال عرضنا السابق لقيمة الجميل في الشعر الجاهلي يمكن تسجيل الملاحظات التالية :

1-: تناول الشـاعر الجاهلي " الجميل " ضمن مساحة كبيرة ، وحضورٍ مميّزٍ في نفسه ، وفي شعره 0 ومن أبرز الموضوعات التي شكّلت هاجسَه ، ضمن هذا الإطار ، المرأةُ ، والفارسُ ، والحصان 0 ومن الطبيعي أن يتناول هذه الأركان الثلاثة لأنها الأكثر بروزاً على الصعيدين الروحي والاجتماعي بالنسبة إلى الإنسان الجاهلي 0 فالمرأة هي الأمّ والحبيبة والأخت والصديقة ، والفارس هو حامي الحمى ، والوجهُ المشرق للقبيلة ، وضميرُها ، والحصانُ هو الوسيلةُ التي يدافع بها الفارس عن وطنه ، وهو صديق حميم للفارس 0

       وقد وجد الشاعر الجاهلي بَراحاً واسعاً في هذه الموضوعات ليعبّر عن إحساسه بالجميل بأقصى ما يستطيع 0

2-: إن الشعر الجاهلي قدّمَ محتوى الجميل بشكل متفاوت ، فركّز على الجمال الخارجي في المرأة ، والحصان ، ولكنّه ركّز على الجمال الداخلي في الفارس ، ولم يهتم البتّة بجماله الخارجي ، كما أنه لم يهتم بجمال المرأة الداخلي 0 وهو عبر تفاعـل الداخـل والخارج يرســمُ صـورةً متكاملة للجميـل في العصر الجاهلي 0

3-: إن الذي يجمع بين موضوعات المرأة والفارس والحصان أن الشاعر الجاهلي قدّمها عبر الصورة الفنية ذات الطابع الحسي سواء أكان التركيز في ذلك على الجمال الخارجي أم الداخلي 0 لقد لاحظنا أنه استنهض كافةً الوسائل المساعدة لتأكيد حسية الصورة وجعل المحسوس أكثر حسية من حيث الموضوع الحسي ، وطريقة تناوله وطبيعة المفردات والتراكيب والثنائية المبنيّة على طرفيين حسّيين 0

4-: ومما زاد في قوة تأثير الصورة الفنية - إلى جانب الحية والحركة - التدفّق الوجداني الذي صاحب تجسيد الشاعر للجميل من خلال المرأة أو الحصان ، حتى لقد لاحظنا أن بعض الشعراء كادوا يستنطقون الحصان 0

       ولعل هذا التدفق غير المحدود سببٌ هام في تأكيد حسية الصورة ، إلى جانب أنه سبب في نقل الجميل من المفهوم الموضوعي إلى القيمة الذاتية ، وإخضاعه لما هو فردي ومميز وخاص عبر تجسيد الصورة له 0

       ونعتقد أن الحسية والحركة ، وتفاعلهما الخلاّق مع التدفق الوجداني جعل من الشكل الفني الذي عكس قيمة الجميل جميلاً ، وربما لهذا السبب أيضاً ما زلنا حتى الآن نقرأ الشعر الجاهلي ، ونشتمُّ رائحة الجميل فيه بكل جوارحنا ، وأحاسيسنا ، وكأننا نحن نكتبه الآن .

5-: إن صورة الجميل التي رسمها الشعر الجاهلي للمرأة ، والفارس صورة حضارية مدنيّة من حيث محتواها على الرغم من طابعها البدوي الصحراوي 0 فهي أ كّدت قيمة الجميل عبر تفاعله مع الآخر ، ومن خلال التواصل والتوازن ، أي إن سمات الجميل كانت أساساً لإثارة الاطمئنان في النفس والرضا والراحة والهدوء 0 فاختيار اللون الأبيض ، والرشاقة ، والليونة ، والكرم في الأخلاق والمال ، والإيثار ، والالتزام بمبادئ القبيلة / الأسـرة والوطن ، والشجاعة ، ورفض الظلم ، وعدم ممارسته ، كلّها سمات أساسية عامة ما زالت تُعتبر من صميم تكوين الجميل لـدى الإنسJان حتى الآن ،وضمن القوانين الإنسانية العامة 0

       إن ربط الشعر الجاهلي بين قيمة الجميل ، وبين كل ما يؤكد إنسانية الإنسان يفسّر لنا السر الذي كان وراء انتقال قيمة الجميل في الشعر الجاهلي إلى " مثال جمالي " لدى الشعراء في العصور التالية دون أن ننسى طبعاً خصوصية الطرح الفني والجمالي لذلك 0

 

هوامش

1-: زهير بن أبي سلمى : ديوانه ، بيروت ، 1979 م ، ص / 8 0

         2-: الخطيب التبريزي : شرح القصائد العشر ، تحقيق : محمد محيي  الدين عبد الحميد  ، القاهرة ، ط 2 ، 1964 م ، ص / 92 0

3-: عبيد بن الأبرص : ديوانه ، بيروت ، 1979 م ، ص / 48 0

4-: زهير بن أبي سلمى : ديوانه ، ص / 9 0

5-: النابغة الذبياني : ديوانه ، بيروت ، بلا تاريخ ، ص / 39 0

6-: الخطيب التبريزي : شرح القصائد العشر ، ص / 79 0

7-: نفسه / 329 – 330 0

8-: نفسه / 484 0

9-: نفسه / 92 – 93 0

10-: النابغة الذبياني : ديوانه ، ص / 41 0

11-: الخطيب التبريزي : نفسه / 81 0

12-: نفسه / 89 0

13-: نفسه / 487 0

14-: نفسه / 97 0

15-: نفسه / 485 0

16-: نفسه / 353 0

17-: الشنفرى : لامية العرب ، بيروت ، 1974 م ، ص / 76 0

18-: الخنساء : ديوانها 0

19-: الخطيب التبريزي : نفسه / 356 0

20-: نفسه / 376 0

21-: نفسه / 48 0

22-: عروة بن الورد ، والسموءل : ديوانهما ، بيروت ، بلا تاريخ ، ص/ 29 0

23-: الخطيب التبريزي : نفسه / 163 0

24-: نفسه / 371- 274 0

25-: نفسه / 107 0

26-: نفسه /300 0

27-: نفسه / 108 0

28-29: نفسه / 372 0

30-: نفسه / 114 0

31-: نفسه / 111 0

32-: نفسه / 116 0

33-: نفسه / 119 0

34-: نفسه / 373 0

35-: / نفسه / 393 0