تساؤلات
حول جماليات العاميّة والفصحى
في
المسرح العربي الحديث
المحتوى
ملخّص
يسـعى
هذا الموضوع إلى إثارة السؤال حول جماليات
الفصحى والعامية ، وما آلى إليه الواقع
الراهن لكليهما من بسطٍ لطبيعةِ المشكلة ،
وعرضٍ لأبعادها في المشهد النقدي ، وعمقها
الفلسفي والجمالي . ولا يسعى إلى البحث عن
حلول على الرغم من تطرّقه إلى ذلك أحياناً .
ويضيف
هؤلاء إلى حججهم السابقة حججاً أخرى أبرزها :
-
إن عامة الناس تتفاعل مع
العامية أكثر من الفصحى .
-
والعامي يجد نفسَه أكثر
واقعية حين يسمعُ العامية .
-
العاميةُ قادرة على تصوير
الجانب الحيوي لدى الإنسان ، وتساعد على
الأداء ، وتحرّك الممثل ، وتقرّبه من الناس ،
ومن الأداء الحي للدور ، وتجعله بعيداً عن
التكلّف .
-
العامية تكسر الحاجز بين
المشاهد والممثل .
-
العامية سهلةُ الارتجال
عند الصرورة .
-
وهي أقدرُ على تصوير
خصوصيات الواقع من الفصحى .
وقد كانت مجمل
الآراء والمواقف التي تناولت لغة المسرح
العربي تنطلق من مرجعيات ترتكز على " مُثُل
جمالية " متنوّعة على رأسها " النموذج
الأوربي " ، و " النموذج الروسي " ، "
والنموذج العربي الإسلامي " الذي يأخذ قوّته من أصالته ؛ أي من
الرغبة في السعي إلى تأصيل المسرح العربي عبر
مستويات متعدّدة ، أبرزها اللغةُ العربية
الفصحى .
وأريـد أن أشير هنا
إلى أن " المُثُل الجمالية " التي كانت
سائدة في فترة الأربعينيات والخمسينيات كانت
تُلقي بظلالها على المشهد الثقافي بشكل عام
في تلك الفترة ، وكانت تتحكّم بالأجناس
الأدبية كالرواية والقصة القصيرة ، والشعر
إلى جانب المسرح لغةً وشخصياتٍ وأحداثاً
ورؤيةً ورؤيا .
لقد كان الحوار بين
دعاة العامية والفصحى في المسرح ذا طابع
سجالي قد يصل أحياناً إلى اتهامات علنية
لاتهدأ بين الفريقين . فدعاةُ الفصحى في
المسرح يتهمون دعاة العامية بالتحلّل
والدعوة إلى التغريب و" الأوربة "
والانسلاخ عن الجذور ، ودعاةُ العامية يتهمون
دعاة الفصحى بالتخلّف والتقوقع والجمود
والأحادية . وما تزال نسائم المعارك النقدية
في الأربعينيات والخمسينيا ت تهبّ بين وقت
وآخر حتى الآن على الرغم من تغيّر اهتمامات
المسرح ، إذ لم تعد " لغةُ الحوار " هي
الشاغل الأول كما كانت سابقاً .
ولو تصفحنا
أبرز ما كُتِبَ ونُشر في النقد عن هذا الموضوع
لوجدنا آراءَ متباينة ؛ بعضُها يدعو إلى
الفصحى لغةً للأدب من منطلق عربي إسلامي
للحفاظ على الموروث ، ولإثبات الهوية
والمستقبل ، وبعضُها يدعـو إلى العامية
لسهولتها ، وجماهيريتها ، ولأنها قد تكونُ في
موقع معيّن لايمكن لغيرها أن يحلّ فيـه .
وهناك بيانات نقدية وقفَ أصحابُها " بينَ
بينَ " ، فدعو إلـى استخدام " لغة الوسـط
" أو " اللغة الثالثة " التي تتميّز
بأنها عربية فصحى بسيطة غير معقدة . ولكن
ملامح اللغة التي تحدّث عنها هؤلاء لم تتكشّف
لنا حتى الآن بكل أسف .
مواقف
جمالية داعمة
:
إن الآراء
النقديـة المذكورة كانت تنطلق - في المرحلة
المذكورة، وماتلاها حتـى الآن - من مواقـف
جماليـة متباينـة ، يعكسها وعـي جمالـي
متباين ، يمكـن أن أوجزهُ فيما يلي :
أولاً
الموقف
الجمالي التقليدي
الذي يُعلي دائماً من شأن الآخر ، والموضوع ،
على حساب الذات ، أعني أنه يرى الذات من خلال
الموضوع . هذا الموقف يطالب بوجوب سيادة اللغة
العربية الفصحى التقليدية دون الالتفات إلى
طبيعة الموقف المسرحي ، أو طبيعة التباين في
لغة الشخصيات ، أو البيئة المسرحية ، وما يتبع
ذلك من تكوين ثقافي أو جمالي .
ثانياً
الموقف الجمالي ( التغريبي )
الذي يتخذ من النموذج الأوربي " مَثَلَهُ
الجمالي " . وأصحاب هذا الموقف يطالبون بنسف
الفصحى ، وسيادة العامية في الأدب ، والاتجاه
الكلي نحو الغرب من خلال الاعتماد على نماذجه
الأدبية وأساليبه الجمالية ، وغير ذلك حتى لو
يكن ينسجمُ وطبيعة الأجناس الأدبية العربية .
حتى لقد طالب بعضُ هؤلاء بتغيير الحروف
العربية بحروف لاتينية . ولو عدنا قليلاً إلى
الوراء نجد أن جذور
هذ التيار تعود إلى العصر العثماني حين فُرضت
آنذاك اللغة التركية في المعاملات الرسمية
والقضاء ، وحُصرت اللغة الفصحى في المساجد
والكتاتيب . وازداد الوضع سوءاً في العهد
الاستعماري الحديث حيث فُرضت اللغات
الأجنبية : الفرنسية والأنكليزية والإيطالية
على الدول العربية المستعمرَة . وما يزال
بعضُها يعاني حتى الآن من ذلك . ويُذكر أن أولى
الدعوات إلى العامية وإلى قلب الحرف العربي
إلى حرف لاتيني كانت في مصر على لسان أحد
المستشرقين الألمان . فقد وضع كتاباً بعنوان (
قواعد العامية في مصر ) ومنه - كما يؤكّد معظم
المهمتمين بقضايا العامية والفصحى - انبعثت
الدعوةُ إلى العامية لسهولتها كما يُدّعى ،
ولصعوبة الفصحى . ومن الدعوات التي تصبّ في
هذا الجانب أيضاً الدعوة إلى كتابة الحروف
العامية باللاتينية . ويرى أحدُ الدارسين
العرب أن اللهجة الدارجة أنسبُ لأي مقام
وأوقع في النفوس عند الخواص والعوام .
ومما يؤكّد
قوّةَ هذا التيار واستمرارَه ما يحدثُ اليوم
على شاشات التلفزة العربية . فالملاحظ أن
العاميةَ حين تُقدّم على شاشـة معظم التلفزة
العربية يوفّر لها مناخٌ جذّاب ، فيه غنى
وتنوّعٌ ؛ من مقدّمات برامج ذوات مواصفات
معيّنة إلى دعمِ تلك البرامج بالجوائز
القيّمة التي تربط المشاهد حتى نهاية
البرنامج ، إلى كل ما يفتنُ المشـاهدَ من قوّة
الصورة البصرية ، بينما تُقدَّمُ الفصحى
في جوّ كئيب ، ، يؤكّدُه ديكورٌ بائس ، لا
يخلو من بعث الشـعور بالملل لكل من يتابعه .
وربما استُخدمت " كاميرا واحدة فقط . واذكر
أن إحدى مقدّمات البرامج حصلت على جائزة أفضل
مقدّمة برامج عام 1998م . ومن الأسباب الأساسية
التي وردت في حيثيات الجائزة أنها - أي
المذيعة - استطاعت ببراعة أن تنشر لهجةَ بلدها
على مساحة واسعة بين المشاهدين .
ثالثاً
الموقف
الجمالي ( العائم ) الذي يرغب
أصحابُه في الجمع بين النموذج العربي القديم
، والنموذج الغربي جمعاً تعسّفباً بطريقة لا
تخلـو من التلفيق والهجانة ، فلاهي بالعربية
، ولا هي بالغربية . وهناك من يُسمّي هذا
الموقف بالموقف التلفيقي .
رابعاً
الموقف الجمالي الموضوعي ، وهو ينطلق من
معطيات اللغة العربية المعاصرة ، ومدى حاجة
الأجناس الأدبية إليها . فهو يطالب بأن تكون
الفصحى لغةً للأدب
من منطلق المحافظة على لغة مشتركة ، لكن
طبيعةَ الفصحى التي يطالبُ بها أصحابُ هذا
الاتجاه هي الفصحى التي تنسجم وطبيعة الواقع
المعاصر من حيث اختيار المفردات السهلة ،
ووضعها في تراكيب سهلة بحيث تؤدّي الغرض
المرجوّ منها . ولكن - مقابل ذلك - لايرفض هؤلاء
أن تُستخدمَ العاميةُ في مواقع معيّنة
وبخاصّة في لغة الحوار ؛ بمعنى أنهم لا
يمانعون من إدخال مفردات عامية إذا دعت
الضرورة إلى ذلـك فـي سياق الأجناس الأدبية ،
وبخاصّة لغة الحوار في المسرح أو القصة
القصيرة أو الرواية ؛ لأن ذلك يؤدّي إلى حالة
من التواؤم الفعّال بين طبيعة الحوار
والشخصيات التي تمارسه .
ويعتقد هؤلاء
أيضاً أن استخدام الأجناس الأدبية للغة عربية
سهلة ، ونجاحها في ذلك سيساعد - من خلال دعم
وسائل الاتصال الفضائية العربية اليوم - على
كسر الهوة بين الفصحى والعاميّات ، ويخلق
لغةً مشتركة واحدة .
اتجاها
الفن واللعب ، والفن والمنفعة :
إن المواقـف
الجماليـة المذكورة لهـا علاقـةٌ وطيـدة
باتجاهين فلسفيين أثـّرا تأثيراً كبيراً في
موقف النقـد الأدبي من لغـة الحـوار في
المسـرح ، وفي غيره من الأجناس الأدبية .
والاتجاهان هما :
1-:
الاتجاه الذي يربط جمال الفن ومن ضمنه الأدب
بالمنفعة .
ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن جمال الفن
والأدب يزداد كلما ازدادت المنفعـة التي
يقدّمها ، ويقلُّ جمالُه بقلّة ما يقدّمه من
منفعة ، ويصبح قبيحاً إذا خلا منها .
2-:
الاتجاه التي يربط جمال الفن باللعب ،
وهو
يَعتبر أن ارتباط أي جنس أدبي مثلاً بمنفعة
حتى لو كانت قليلة ستفسدُ جمالَه ، وتجعله
قبيحاً . والنقّاد الذين ينطلقون من هذا
الموقف لايهمهم كيف تكون لغةُ الأدب ؟ المهم
عندهم أن يحقق هذا العملُ الإبداعي : اللعبَ
أو مقولةَ الأدب من أجل الفن ؛ بمعنى إذا كانت
العامية تحقّق هذا الأمرَ ، فيجب أن التمسّك
بها حتى يظلّ الأدبُ جميلاً .
إن النقد العربي المعاصر كان ينطلق ، وما
يزال من المواقف الفلسفية والجمالية
المذكورة في تحديد موقفه من لغة الحوار
المسرحي ، ولغة الأجناس الأدبية الأخرى .
ملامح المشهد اللغوي الراهن للعربية
:
إن المشهد الراهن
للغة العربية لا يُنبيء بانفراج قريب على
صعيد الفصحى ، بل يُلاحَظ أن اللهجات العامية
تتغلغل على مستوى واسع ، وعلى أصعدة مختلفة .
وكل ذلك ينعكس على بشكل مباشر على الاستحسان
الواضح لعامية الحوار المسرحي من قبل الجمهور
، وكثير من النقاد .
وسأرسم - فيما يلي -
صورة للمشهد اللغوي الراهن في الوطن العربي ،
ويمكن لنا بعد ذلك الحكم على مدى خطورة ما
يجري :
أولاً
- : هناك اليوم عدّة
أشكال للغة العربية الفصحى ، من أبرزها :
الشكل التقليدي ، والشكل الحداثي ، والشكل
الذي يتأرجح " بين بين " . ولكل شكل من هذه
الأشكال مصطلحاتُه ومرتكزاته الفلسفية
والجمالية ، وأنماط تفكيره التي تتميّز
تميّزاً بيّناً من الآخر .
ثانياً-
: هناك عدّة لهجات
متداولة في الوطن العربي . والإنسان العربي
ينشأ على اللهجة العامية ، ثم يتعلّم الفصحى
على مقاعد الدراسة . وهذا يشكّل له ، أي لهذا
الفـرد ثنائيةً لا تجعلُه قادراً علـى
الاستقرار باتجـاه معيّن . ويظل قلقاً على
الدوام .
ثالثاً
-
: ومن سمات الوضع اللغوي الراهن أيضاً أن هناك
أناساً غير عرب ينطقون اللغةَ العربية
ويعيشون ثنائية لغتهم الأساسية ، واللغة
العربية الفصحى التي تعلّموها .
رابعاً
-
: هناك تأثيرٌ كبير للغات الأجنبية في
الباحثين العرب . فهم يفكّرون علمياً باللغة
الأجنبية التي أكملوا دراساتهم بها ،
ويفكّرون باللهجة العامية في سلوكهم العادي
اليومي . وهذه ثنائية لغوية أخرى لها
انعكاساتها السلبية على العربية الفصحى ،
وعلى الفرد بوصفه باحثاً ، أو متلقياً عادياً
لعمل فني .
خامساً
-
: لكن الأمر الذي يزيد من خطورة الموقف الراهن
هو التناقض شبه المستمر بين نمطين ليس لهما علاقةٌ
مباشرة بالنقد ، ولكنهما يؤثّران فيه ،
وفي ثنائية الفصحى والعامية ، هما :
1-
الموقف الرسمي الذي يطالبُ
أن تكون الفصحى هي لغة الحوار المسرحي والأدب
. ويتبنّى هذا الموقف مجامعُ اللغة العربية ،
والجهاتُ الأكاديمية الرسمية . وهؤلاء يتبنون
الموقفَ الجمالي التقليدي الذي ذكرناهُ
سابقاً . وقد يكون تمسّكُ هؤلاء بالفصحى في كل
شىء ، ومنها مثلاً لغةُ الحوار المسرحي
لمجرّد أنها فصحى ، أسـاءَ إلى العربية
الفصحى في أحايين كثيرة .
2-
الموقفُ غير الرسمي ، أو
الموقف الراهن الموجود على حيّز الواقع الذي
يؤكّد أن للعامية حضوراً مميّزاً في كل مكان ،
وعلى خشبة المسرح .
أمام هذا المشهد
القائم من تعدد اللهجات العامية ، وتمكّنها ،
وثنائيةِ العامية والفصحى ، وثنائية
الخطابين التقليدي والحداثي ، وثنائية الوعي
الجمالي التقليدي والوعي الجمالي الغربي ،
وثنائية الجدّ واللعب ، أي المنفعـة والفن
للفن . أقول : أمام كل هذه الثنائيات يبدو
الواقع اللغوي الراهن الآن للعربية الفصحى
صعباً ، وشائكاً ، ويكـاد يُعطـي للعاميـة
إمكانات السبق في معظم الحقول .
و
محطّات
في لغة المسرح العربي الحديث منذ النشأة حتى
الآن
:
لم يعرف العربُ
المسـرحَ قديماً لأسباب متعدّدة لامجال
لذكرها هنا ، فهم لم يكتبوا " النص المسرحي
" بمعناه الاصطلاحي ، وإن كانت لهم
ممارساتٌ مسرحية كانت تتبدو في الحفلات
والأعراس والأعياد الجماعية .
إن المسـرح العربي
مديـنٌ - كما هو معـروف - بنشوئه إلى الغرب
الأوربي . وهو - إلى جانب القصّة القصيرة ،
والرواية - نتيجةٌ لعملية المثاقفة التي تمّت
في القرن الماضي بين الثقافتين الغربية
والشرقية ، وما تزالُ مستمرّة .
ويمكن اعتبارُ مسرحيةِ
" البخيل " لمارون النقّاش التي كتبها
هو ، وأخرجها على خشبة المسرح في بيت جدّه
ببيروت عام / 1847م أوّلَ مسرحية عربية تُدخِلُ
فنَّ المسرح إلى اللغة العربية ، وتجعله
واقعاً ملموساً . ولابدّ من الإشارة إلى أن
المسرحية المذكورة ليس لها علاقةٌ بمسرحية
البخيل للكاتب الفرنسي موليير .
وتنبع أهميةُ مسرحية
النقّاش من أنها - إلى جانب ما تقدَّمَ - أوّلّ
مسرحية عربية تُثير إشكالية " العاميّة
والفصحى " في المسرح العربي .
لقد قدّم النقّاش
مسرحياتٍ متعـدّدة - إلى جانب البخيل - مثل :
أبو الحسن المغفّل / 1849م ، و الحسود السليط
/ 1853م . ولعل أبرز ما يُشار هنا أن تلك
المسرحيات قُدّمت بلغةٍ اختلطت فيها
العربيةُ الفصحى بالعامية الركيكة بالتركية .
ويمثّل المرحلة
التالية - بعد النقّاش - الكاتبُ السوري أبو
خليل القبّاني الذي قدّم مسرحياته الأولى
في أحد بيوت دمشق القديمة ، ثم رحل إلى مصر .
وفي القاهرة قدّم مسرحيات أنيس الجليس
والأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب وعفيفة
وعنترة ، وغيرها .
والملاحظة الهامة -
في هذا المجال - أن لغةَ المسرحيات التي كتبها
، ثم قدّمها على خشبة المسرح كانت قائمةً
بالأساس على العامية ، والتركية ، وقليل من
الفصحى .
ولا يخرج الرائد
المسرحي الثالث يعقوب صنّوع عما
بناهُ زميـلاهُ المذكوران . فقد قدّم اثنتين
وثلاثين مسرحية تاليفاً وإخراجاً وتمثيلاً
أغلبها يصوّر الواقع الاجتماعي في مصر آنذاك
معتمداً على الدعابة الشعبية والأغاني
الشائعة واللهجة العامية .
لقد أردتُ من خلال
الإطلالة السريعة على جانب من جهد روّاد
المسرح أن أؤكّد مسألتين :
الأولى
أن
مشكلةَ العامية والفصحى ليست طارئةً على
المسرح العربي . فقد لازمته منذ نشوئه ،
واستمرّت معهُ حتى الآن .
الثانية
أن
مسـرح الروّاد الأوائل جعـل من العامية
أساساً في المسرح . وما يزال المسرح العربي
منذ مسرحية البخيل للنقّاش حتى الآن ملتزماً
بالعامية كأساس ، ومنطلق .
وعلى الرغم من أننا
لسنا بصدد الحديث عن مراحل المسرح العربي ،
لكن لابد لنا من الإشارة إلى أن المرحلة
الثانية في المسرح العربي التي يُطلق عليها
" المرحلة الرومانسية أو مرحلـة الأوربة
" والتي مثّلهـا جورج أبيض ، ويوسـف وهبي
، ونجيب الرياني ، وغيرهم لم تخرج - على صعيد
اللغة - عمّا اختطّه الروّاد . وكانت اللهجةُ
العامية هي السائدة في لغـة " النص المسرحي
المكتوب " ، و" لغة الممثّل " على
خشبة المسرح .
لقد نَمَا المسرحُ
العربي في هذه المرحلة الثانية نموّاً لافتاً
، وبدا واضحاً تأثّره بالمسـرح الأوربي
والروسي ، وكذلك بالمدارس الأدبية والفنية ،
مثل : السريالية ، والوجودية ، والواقعية ،
والرمزية ، وما إلى ذلك من أسطورة ، ورمز ،
وتقنيات فنية جديدة .
ولكن لو بحثنا في
مسرح تلك الفترة عن ملامح لمسرح عربي لانكاد
نقع على شيء بسببٍ من غلبة العناصر الغربية
على الشرقية العربية .
ولو تركنا طورَ
النشأة ثم طور النمو ، وانتقلنا إلى مرحلة
النضج لوجدنا أن الأفقَ المسـرحي العربي
أصبح أكثرَ رحابة ، واتساعاً وغنىً وتنوّعاً .
ويمكن القول : إن التجربة المسرحية لدى
الكتّاب العرب تبلورت ونضجت في هذه المرحلة
كمّاً وكيفاً . وظهر جيلٌ جديد مدعوم بثقافة
مسرحية ووعي جمالي مسرحي .
وخلال هذه المرحلة التي تمتدّ حتى الآن
ازدادت عملية المثاقفة مع الغرب والشرق عبر
الاحتكاك المباشر والترجمة ووسائل الإعلام
المختلفة ، وأُسّست المعاهدُ المسرحية
العُليا في بعض العواصم العربية ، وظهر
كُتّاب كبار في كتابة النص المسرحي مثل : توفيق
الحكيم ، ويوسف إدريس ، ومحمّد الماغـوط ،
وسـعد اللّـه ونّوس ، ووليـد إخلاصي ، ومصطفى
الحلاّج ، وغيرهم .
لكن الملاحظ هنا أنه
على الرغم من كل التطوّر الذي أصاب ثقافةَ
الكاتب وتقنيات المسرح على كافـة الأصعـدة ،
فإن العاميـة كانت أحـدَ هواجسـه التعبيريـة
في لغة الحوار المسرحي .
وأودّ أن أُشير هنا
إلى أنه إذا كانت العامية قد رافقت " النص
المسرحي " منذ نشأته ، فإن " المسرح
التمثيلي " كان مفتوناً بالعامية . فمنذ "
البخيل " للنقّاش مروراً بالمسرح الغنائي
لأبي خليل القبّاني والمسرح الشعبي الكوميدي
ليعقوب صنّوع ، فيوسف وهبي ، والريحاني حتى
المسرح التجاري لدريد لحّام ، وعادل إمام ،
ومحمد صبحي ، وغيرهم كانـوا جميعاً يقدّمون
مسرحَهم بالعامية ، اللهم باستثناء ما يقدّمه
طلاّبُ المعاهد المسرحية العليا من أعمال
مسرحية لعرضها على اللجان لإجازة هؤلاء
الطلبة حتى يتخرّجوا ، وليس لغاية عرضها على
الصعيد الجماهيري .
أما ما تقدّمه
المسارح القومية في سورية ومصر وتونس فهو
قليلٌ من حيث الكم ، وضيفُ الفاعلية من حيث
التأثير والكيـف بسبب ضعف الدعم الإنتاجي له
، وأسباب أخرى لامجال لذكرها .
إن المسرح السائد هو مسرح
القطاع الخاص . وهذا المسرحُ لا تعنيه
اللغةُ الفصحى بقدر ما يعنيه الربح المالي .
وهو مسرحٌ ذكي لأنـه يعـرف تماماً ما يريده
" النظّارة " منه . ولا بد لي من الإشادة
بالمسرح الشعري العربي الذي كان يسعى إلى
مقاربة الشعر في لغته . ومن أبرز شعرائه : أحمد
شوقي ، وسليمان
العيسى ، وصلاح عبدالصبور ، وخليل مردم ،
وخالد محيي الدين البرادعي ، وممدوح عدوان ،
وغيرهم .
ز
نتائج
:
يُلاحظ من خلال
استعراضنا السابق ، ومناقشتنا لجانب من
المعارك النقدية التي دارت حول لغة المسرح ،
ولأبرز النظريات الجمالية الداعمة لذلك ،
وكذلك من خلال عرضنا الموجز للغة المسرح
بدءاً بجيل الروّاد ما يلي :
1-
إن
العامية كانت وما تزال هاجس " النص المسرحي
" ، وأساس " المسرح التمثيلي " . وهذه
العاميةُ أضحت عاميّات . ومن النادر أن نجدَ
مسرحيةً لم تخضع لإغراء تلك " العاميات "
، حتى إن بعض المسارح القومية كانت تقدّم
مسرحيّاتها باللغة الفصحى ، وكان كثيرٌ من
النقّاد والجمهور لا يعتبر ذلك مسرحاً ، بل
يعدُّونه نوعاً من أنواع تأدية الواجب القومي
، أو أن المسرحَ القومي غيرُ جاد ؛ لأنه
سيقدّم استعراضاً خطايباً للغة الفصحى ، وليس
مسرحاً . ومعظمُ هؤلاء يعتقدون أن هذا النوعَ
من العروض المسرحية لن ينجحَ لأنه مكتوب
باللغة الفصحى .
2-
ناقشَ النقدُ الأدبي بعامة
، والنقد المسرحي بخاصّة مشكلةَ العامية
والفصحى في المسرح ، وفي غيره من الأجناس
الأدبية . وكان ذلك النقدُ - حتى المتشدّد منه -
أكثر مَيلاً إلى التباسط مع العامية في
الحوار المسرحي ، وبخاصّة حين يُقدّم "
النصُّ المسرحي " على خشبة المسرح ، باعتبار
أن العاميةَ حالةٌ واقعة لابدّ من الاعتراف
بحضورها في المسرح ،
وهي من خلال ذلك قادرة على التعبير عن أبعاد
الشخصيات والأحداث ، وقادرة على إثارة
الكوميدي والتراجيدي ، ورسم الجميل ، والقبيح
، وتكوين الجليل ببراعة متناهية . والعاميةُ
بهذه الصورة ، ومن منظور جمالي تُعتبر جميلةً
لأنها تؤدّي الغرض الذي وُضعت لأجله . ولأن
هناك من يجعلُ العامية كذلك فقد راجت وصار لها
جمهورُها الواسع ، وسحرها الخاص ، بـل أصبحت
العاميـة تتحكّم بتغيير الذوق الاجتماعي .
والعامية - من خلال تملّكها المذكور - حين تكون
غير ذلك تبدو قبيحةً من وجهة نظر هؤلاء .
إننا ندعو إلى أن
تكون اللغة العربية الفصحى لغةَ الحوار
المسرحي ، بل لغة الأجناس
الأدبية
جميعاً دون استثناء ؛ فالعربيةُ ليست مجرّدَ
مفردات جميلة فحسب ، وإنما هي تمثّل عمقَ
شخصيتنا الحضارية ، وحاضرها ، وعن طريقها صاغ
الإنسان العربي - عبر الآف السنين - مشاريعَه
الحضارية ، والجمالية ، وعن طريقها أيضاً
أهدى إلى العالم أبجديات المعرفة الإنسانية .
إن العربية الفصحى يجب أن تكون لغةَ مستقبلنا
. ولايتم ذلك إلا إذا ساهم الأدبُ في استثمار
طاقاتها في الحوار ، والتعبير ، والتصوير .
ولكن ينبغي ألا ننسى مراعاةَ " بيئة الحوار
" ، و" لغة الحوار " بين الشخصيات على
الصعيد الثقافي ، وكذلك " الموروث الشـعبي
" الذي صيغ أساساً بالعامية ، ولايمكن أن
يُقدّم إلا عبر تلك الصيغة . أعني أنه لا بد من
الأخذ بعين الاعتبار التفاوت النسبي بين
الشخصيات ، وكذلك الأمثال والأغاني
والحكايات ، وما إلى ذلـك . ونتمّنى أن يقوم
المعنيون بشـؤون الكتابة في
المسرح أو الأدب بجعل الفصحى تقوم بذلك ،
بدلاً من العامية ، إذ نظن أن المشكلة عائدة
إلى من يستخدم العربية ، وليس إلى العربية
ذاتها . وحين لا يستطيع هؤلاء جعلَ الفصحى
تحقّق ذلك ستصبح قبيحـةً ، ومستهجنة ، وستحلّ
العاميةُ - دون أي
استئذان - مكانها ، كما هو حاصل الآن .
وأودّ أن أُشير - قبل
أن إقفال الحديث في هذا الموضوع - إلى أن معظم
الذين استخدموا الفصحى في الحوار المسرحي لم
ينجحوا في تطويعها لتصبح جزءاً من الشخصية
التي تتحدّث بها ، بل - دائماً - كنا نحسّ أن
الشخصية شيءٌ والحوارُ الذي تتحدّث به شيءٌ
آخر منفصلٌ عنها تماماً إلى جانب الخطاب
المنبري الذي يُعدّ من أبرز سماتها ، لذلك
كانت الفصحى - في المسرح -
تخسرُ من الجولة الأولى أمام العامية .
وإذا ما أردنا للفصحى أن تسود ، ولو بشكل نسبي
، فينبغي أن نثق بها أولاً ، وأن نقتنع
بقدرتها على النجاح ، وينبغي ثانياً أن يكون
الكاتب قادراً على توظيفها توظيفاً صحيحاً
بحيث يجعلها جزءاً من الشخصية ، وينسحب هذا
الكلام على المخرج والممثل وكاتب السيناريو ،
وكاتب الحوار . وينبغي أن يدعـم كلَّ ذلك
وسائلُ الإعلام المختلفة ، وبخاصّة المؤثّر
منها ، وأن تتخلّص الجهات الأكاديمية المعنية
بهذا الأمر من المبالغة في الطرح . واعتقد
أننا بهذه الصورة نستطيع أن نساهم في جعلها -
ربما - في المرتبة الأولى ، وجعل العامية في
المرتبة الثانية ، وليس العكس كما يجري الآن .