وشم على جدار القلب
للفزيع
الوعي الجمالي
التقليدي وغياب الخصوصية والتفرد
عبدالله خلف العسّاف*
في مجموعة وشم على جدار
القلب للشاعر خليل الفزيع والصادرة عن نادي نجد أن جُل النصوص عمودي.
وهناك 7 نصوص كُتبت على نظام التفعيلة ولكنها لا تخرج عن المناخ
العمودي . وهي طرحت ضمن المنظور التقليدي للنقد موضوعات تقليدية، مثل
موضوع النسيب (الذي يمتزج فيه الغزل بالحنين)، وموضوع البكائيات (التي
تجسّدت في الرثاء والحزن والفخر)، وموضوع الغزل، وموضوع الدينيات،
وموضوع الوصف.
أما الموضوعات التي طرحتها النصوص من خلال المنظور
الجمالي للنقد فقد بدت من خلال سعي النصوص لتجسيد مجموعة من القيم
الجمالية، منها قيمة الجميل (المديح، والمرأة، والمكان الجميل،
والتغنّي بالطفولة)، وقيمة البطولة (أم الشهيد)، وقيمة القبيح التي
تجسّدت في (صورة المستعمر، والصديق السيئ، والوضع العربي القائم)،
وقيمة التراجيدي عبر سقوط الجميل: (القدس والأصدقاء والوطن). وعبر سقوط
المثل الأعلى الذي تجسّد في عدم قدرة الفرد على تحقيق رؤياه من خلال
علاقته الصدامية بالواقع. وتتجسّد الرؤيا في رغبة الفرد في إيجاد عالم
آمن يحقّق له طموحاته الإنسانية، ومجتمع متراص وعلاقات إنسانية نظيفة
ومكان هادئ جميل.
وقد كُتبت معظم نصوص المجموعة في مناسبات خاصّة
وعامة، مثل: (عيد ميلاد، أو معارضة لقصيدة صديق، أو تحية إلى صديق، أو
وصف لمدينة تخص الشاعر، أو رثاء). أي إن أغلب نصوص المجموعة نصوص
مناسبات. وهذا يعني أنها سوف تلتزم بالرؤية الفنية والجمالية التي
تتطلبها تلك المناسبات. فهي لذلك تعبّر عن الآخر، أي عن الموضوع، وتقلل
من أهمية الفرد، فصارت المساحة الممنوحة للآخر أكبر من مساحة الفرد.
وهذه المسألة ليست في مصلحة النصوص؛ لأن الشعر هو تجسيد جمالي لانعكاس
الواقع في ذات المبدع، وليس وصفاً لظاهرة خارج تلك الذات، أو مسّاً لها
من الخارج.
وقد التزم الشاعر بقافية موحّدة لكل قصيدة مطبقاً مقولة
قدامة بن جعفر: (الشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يدلّ على معنى).
أي إن المجموعة ظلت أمينةً للخط الفني التقليدي الذي التزمت به، أي
ظلّت ملتزمةً بالوعي الجمالي التقليدي الذي تطرحه تلك النصوص . وهي -
لذلك - من المنظور الجمالي تنتمي إلى غير عصرها.
اللغة
الشعرية
طبيعـة اللغة الشعرية فـي كافة نصوص المجموعة - العمودية
والتفعيلة - مباشرة، خطابية، تقريرية، تكاد تخلو من الغموض الفني، كما
أنها معجمية على الرغم من أن الشاعر كان يسعى أحياناً إلى مقاربة
الأسلوب الرمزي من خلال ربـط المحسوس بالمعنوي، والمعنوي بالمحسوس.
واللغة الشعرية - إلى جانب ذلك - يقلّ فيها التنوّع في أصول المواد
ودلالاتها. صحيح أن هناك تنوّعاً في المفردات، ولكن هذا التنوع ظل ضمن
حيّز المساحة الكبيرة التي مُنحت للموقف التراجيدي في المجموعة، وكل
ذلك ينطوي تحت إطار الرؤية الموحدة التي صبغت طبيعة النصوص.
واللغة
الشـعرية - ضمن هذا الإطار - تنسجم وطبيعة محتوى النصوص. فالمحتوى
بعامة ينصرف إلى التعبير عن مناسبات عامة وخاصة. ومن الطبيعي في مثل
هذه الأحوال أن تكون اللغة مباشرة وتقريرية وذات طابع خطابي، وتلتزم
بالشق المعجمي للغة، ويقلّ فيها التنوّع.
وتهيمن على جميع النصوص
لغةٌ مشتركة، ومفردات ذات طابع واحد تشكّل مجتمعة قيمة التراجيدي التي
تأخذ الحيّز الأكبر بين القيم الجمالية الأخرى: الجميل، والقبيح،
والبطولي، والرفيع... ونحن نستطيع أن ندخل إلى عالم هذا الشاعر من خلال
المناخ الذي تفرضه هذه المفردات وتفرّعاتها. تلك المفردات التي تشكّل
المعجم الشعري للمجموعة - وتؤكّد على أن الواقع الذي يعكسه الشاعر
واقعٌ مأزوم، وأن الفرد الذي يعبّر عنه فردٌ مأزوم أيضاً، والإحساس
الذي يلازمه هو شعوره بأنه إنسان متروك ومغترب ووحيد، وهو غير قادر على
الانسجام مع ما يحيط به، أو هو غير قادر على استيعاب ما يجري، مما
يشكّل لديه - دائماً - صراعاً بين الأنا والآخر، بين الذات والموضوع.
وهذا الصراع هو سببُ القلق الدائم والإحباط اللذين تعبر عنهما النصوص،
وهو - من ثم - سببٌ في اتجاه هذا المعجم الشعري على النحو الذي ذكرنا.
ولا بد من الإشارة إلى أن الشاعر لم يختر المعجم الشعري، بل اختارته
موضوعات النصوص، والطبيعة المأزومة التي تعكسها، والوعي الجمالي
التقليدي الذي تبنتّه. وبناء على ذلك يمكن القول: إن مفردات المعجم
الشعري وتفرّعاتها تشكل الخلفية الأساسية للمجموعة، وهي سببٌ مباشر في
بناء بنية التراجيدي التي هيمنت على القيم الجمالية الأخرى، بل إنها
المسوّغ العلمي لهذا التفوّق. يضاف إلى ذلك أنه يمكن اعتبار مفردات هذا
المعجم المدخلَ الرئيسي لمقاربة الإحساس الجمالي الذي تعكسه تلك
النصوص.
الوحدة العضوية
تبدو الوحدة العضوية في معظم النصوص من
خلال وحدة المحتوى فحسب. أما الوحدة العضوية التي تتشكّل عادة من خلال
الوحدة في التنوع، وتطور البنية الدرامية، ووحدة عناصر الرؤية والرؤيا،
وتفاعل الصور الفنية الجزئية، ووحدة الحسي والمعنوي فلم تجسّده نصوص
المجموعة. ولعل التزام النصوص بالنوع الأول من الوحدة وتخلّيها عن
النوع الآخر ينسجم وطبيعة الوعي الجمالي التقليدي الذي صاغها.
وقد
سعى الشاعر لرسم عالم متخيّل يوازي الواقع الحسي المهزوم، ولكنه ظل
يُقاربُ المحتوى أكثر من الصورة. وقد اعتمد الشاعر على التدفّق العاطفي
في النصوص بوصفه بديلاً لتشكيل الصورة الفنية التي تعتمد أساساً على
التشكيل. وهو لذلك اعتمد على التعبير، ولم يعتمد على التشخيص. ونحن نرى
أن هذه الاتجاه في المجموعة ينسجم وطبيعة الوعي الجمالي التقليدي،
ومحتوى نصوص المناسبات، ومن ثم طبيعة لغة الخطاب الفني الذي يتمظهرُ-
عادة - في مثل هذا النوع من النصوص. وخلاصة القول: إن التخييل الفني في
جميع النصوص هو تخييل رؤية، وليس تخييل رؤيا. وهذا يقلّل من شعرية
الشكل الجمالي لها، ويرفعُ من سوية النثرية فيها.
(في يومنا الجميل
ْ
أهديكَ باقةً من القبل
بخدّكَ الأسيل
ونجمةً عنوانها
الأملْ)
ومن الواضح أن مساحة الرؤية تتغلَّبُ على المساحة التي
أُعطيت للرؤيا. وأبرزُ ما يدلّل على ذلك مفردات المعجم الشعري ذات
الطابع المأساوي، وهيمنة قيمة التراجيدي على القيم الجمالية الأخرى،
وطغيان المحتوى السوداوي للنصوص. ولعل سبب هذه الهيمنة عائد إلى ضخامة
حجم الأزمة في الرؤية وشدّتها في الفرد والواقع معاً، ويكاد يسيطر على
الإيقاع البعيد في ذات الشاعر، ويدفعه دفعاً لكي يستجيب مرغماً عبر
آلية الإبداع لذلك. فمن يقرأ نصوص المجموعة - لو تجاوزنا الشكل الجمالي
للمحتوى - يجدُ أنها تعبّر بشكل أكيد عن أزمة الذات تجاه ما يُحيطُ
بها، وتستجيب لما تحسّ بها تجاه الواقع، وتعكس موقفها النفسي والفكري
منه. ويمكن تعميم هذه الحالة من ناحية المحتوى، لكنه من الصعب نمذجتها
لأن النمذجة تتأتى من خلال الصورة الفنية الحية، وقد اعتمدت المجموعة
على التعبير، وتخلّت عن التصوير.
القيم الجمالية
ـ التراجيدي:
تمظهر التراجيدي فـي معطيين: موت الجميل (من خلال الرثاء، والبكاء على
الماضي الجميل )، وسقوط المثل الأعلى (من خلال الصدام الدائم مع
الموضوع). وتكاد معظمُ النصوص تؤكّد ذلك. ومما يدعمُ ذلك أن مساحةَ
التراجيدي تتفوّق - كما ذكرنا - على مساحات القيم الجمالية الأخرى
مجتمعةً.
ـ الجميل: برز الجميل عبر 3 مستويات: تجلّى الأول في
صـورة المرأة، وصورتي الطفلتين الجميلتين. وتجلى المستوى الثاني من
خلال النصوص الدينية التي أثبتها الشاعر في المجموعة؛ فهو يرى أن
الجمال الحقيقي يتجسّد من خلال العلاقة القوية مع الله، فهو مصدر
الخلاص، وفي اللجوء إليه تكمن الراحة، ويُطرد القلق. أما المستوى
الثالث فانعكس من خلال تعبير الشاعر عن المكان أكثر من مرّة بوصفه
المحيط الحسي الهادئ الذي يحتويه حين يحسّ بأزمته، أو هو المكان الآمن
الذي يمكن اللجوء إليه لتفريغ الأزمة التي تتشكّل من صراعه مع الواقع.
ونـود أن نشير هنا إلى أن قوة (قيمة الجميل) في المجموعة تنبع من
وقوفها بشكل متواز أمام هيمنة التراجيدي المتضخم في النص والواقع
والنفس.
ـ القبيح: عبّرت نصوص المجموعة عن قيمة القبيح من خلال
وضعها في مواجهة قيمة الجميل. فهي تقف على الضفة الأخرى لها. ولعل ذلك
سبباً مباشراً في تعريتها. وقد تبدّت هذه القيمة من خلال تأكيد النصوص
على المستعمر، والواقع العربي المهزوم، وفشل الصداقة، والموت .
ـ
البطولي: وقد تجسّد من خلال شخصية أم الشهيد.
ـ الصورة الكلية
للفرد في النصوص: الفرد الذي تعبّر عنه النصوص فردٌ مأزوم، مهزوم،
حزين، ممزق، خائب، مقهور، منطوٍ، وحيد، متروك .
يقول :
مازلتُ
أبحثُ عن خِلّ يؤانسني فما وجدتُ سوى الآلامِ تنظرُ
خلاصة القول:
لقد عبّرت مجموعة وشم على جدار القلب - من خلال المحتوى -عمّا يتحرّك
في فضاء الفرد من آلام وإحباطات، ومن آمال وإشراقات، ولكنها أخفقت في
إثبات هويتها الجمالية، ومن ثم خصوصيتها، وتفرّدها . وهي لذلك تنتمي
إلى غير عصرها .
* أكاديمي وناقد سوري