تساؤلات حول جماليات العاميّة والفصحى

 في المسرح العربي الحديث

 

المحتوى

-       طبيعة المشكلة ، ومحيطها .

-       أبرز المواقف النقدية ، ومرتكزاتها الجمالية .

-       اتجاها الفن واللعب ، والفن والمنفعة .

-       المشهد اللغوي الراهن للعربية .

-       لغة المسرح العربي الحديث منذ النشأة حتى الآن .

-       أبرز النتائج .

 

ملخّص

 يسـعى هذا الموضوع إلى إثارة السؤال حول جماليات الفصحى والعامية ، وما آلى إليه الواقع الراهن لكليهما من بسطٍ لطبيعةِ المشكلة ، وعرضٍ لأبعادها في المشهد النقدي ، وعمقها الفلسفي والجمالي . ولا يسعى إلى البحث عن حلول على الرغم من تطرّقه إلى ذلك أحياناً .

 

أ

طبيعة المشكلة ، ومحيطها :

إن الحديث عن لغة المسرح العربي قديمٌ ، حديثٌ ، متجدّد ، وقد كَتَبَ فيه وعنه عشرات الكتّاب ، وأُلّفت فيه كتبٌ كثيرة ، وشهدت الصحافةُ العربية منذ نشأتها ، وبخاصّة صحافـة الأربعينيات والخمسينيات ، مئـات المقالات الـتي تناقش بجدية كبيرة لغة المسرح العربي .

وقد كانت القضية الساخنة المطروحة للنقاش خلال الربع الأخير من القرن الماضي والنصف الأول من القرن العشرين وما تزال في موضوع المسرح هي الفصحى و العامية . فإذا كانت الفصحى هـي التي ينبغي أن تكون لغةً للمسرح ، فأية فصحى ينبغي أن تكون ؟ هل " الفصحى التقليدية " ذات المستوى الأحادي الذي لايميّز بين الشخصيات المسرحية من حيث المسـتويين الثقافي والبيئي ، وغيرهما ؟ أم " الفصحى المعاصرة " التي تلتزم بقواعد اللغة العربية ، وتراعي التمايز المذكور بين الشخصيات ؟ ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً كان من قبل دعاة العامية في المسرح إلى المتمسكين بالفصحى : إذا كان لدينا مَثَلٌ شعبي موضوعٌ بالعامية ، وورد هذا المَثَلُ على لسان إحدى شخصيات المسرحية ، فهل ننقله إلى الفصحى أم نبقيه كما هو ؟ وإذا نُقل إلى الفصحى ، فإنه سيفقد قدرته على التأثير لأنه أُخرج من سياقه الجمالي الذي وُضع فيه . واحتج دعاةُ العامية في المسرح بأشياء  كثيرة إلى جانب الأمثال الشعبية ، منها مثلاً ما يتعلّق بالأغـاني الشعبية الموضوعـة أساسـاً بالعاميـة ، و" النكات " الكوميديا ، وضرورة انسجام لغة الحوار المسرحي مع شخصيات لايمكن لها أن تتحدّث إلا بالعامية ، ولو وُضعت في غير هذا السياق لفقدت مصداقيتها الفنية ، ومن ثَمّ تأثيرها ، وهكذا . وأكد هؤلاء الذين يدعون إلى العامية على ضرورة التزام لغة النص المسرحي بمراعاة التفاوت بين الشخصيات ، وارتباطها فيما بينها من جهة ، وبين الأحداث والأمكنـة التي تنتمي إليها من جهة أخرى ؛ بمعنى أن لغة الحوار المسرحي ينبغي أن تنسجم ووعي الشخصيات الثقافي والجمالي ، وكذلك البيئة التي تنتمي إليها . ويقولون : إنه ليس من المعقول في مسرحية تعكس بيئةً متخلّفة حضارياً أن تتحدّث شخصياتُها التي تنتمي إلى تلك البيئة اللغةَ العربية الفصحى .

ويضيف هؤلاء إلى حججهم السابقة حججاً أخرى أبرزها :

-       إن عامة الناس تتفاعل مع العامية أكثر من الفصحى .

-       والعامي يجد نفسَه أكثر واقعية حين يسمعُ العامية .

-       العاميةُ قادرة على تصوير الجانب الحيوي لدى الإنسان ، وتساعد على الأداء ، وتحرّك الممثل ، وتقرّبه من الناس ، ومن الأداء الحي للدور ، وتجعله بعيداً عن التكلّف .

-       العامية تكسر الحاجز بين المشاهد والممثل .

-       العامية سهلةُ الارتجال عند الصرورة .

-       وهي أقدرُ على تصوير خصوصيات الواقع من الفصحى .

 

ب

آراء نقدية في لغة المسرح :

وقد كانت مجمل الآراء والمواقف التي تناولت لغة المسرح العربي تنطلق من مرجعيات ترتكز على " مُثُل جمالية " متنوّعة على رأسها " النموذج الأوربي " ، و " النموذج الروسي " ، " والنموذج العربي الإسلامي "  الذي يأخذ قوّته من أصالته ؛ أي من الرغبة في السعي إلى تأصيل المسرح العربي عبر مستويات متعدّدة ، أبرزها اللغةُ العربية الفصحى .

وأريـد أن أشير هنا إلى أن " المُثُل الجمالية " التي كانت سائدة في فترة الأربعينيات والخمسينيات كانت تُلقي بظلالها على المشهد الثقافي بشكل عام في تلك الفترة ، وكانت تتحكّم بالأجناس الأدبية كالرواية والقصة القصيرة ، والشعر إلى جانب المسرح لغةً وشخصياتٍ وأحداثاً ورؤيةً ورؤيا .

لقد كان الحوار بين دعاة العامية والفصحى في المسرح ذا طابع سجالي قد يصل أحياناً إلى اتهامات علنية لاتهدأ بين الفريقين . فدعاةُ الفصحى في المسرح يتهمون دعاة العامية بالتحلّل والدعوة إلى التغريب و" الأوربة " والانسلاخ عن الجذور ، ودعاةُ العامية يتهمون دعاة الفصحى بالتخلّف والتقوقع والجمود والأحادية . وما تزال نسائم المعارك النقدية في الأربعينيات والخمسينيا ت تهبّ بين وقت وآخر حتى الآن على الرغم من تغيّر اهتمامات  المسرح ، إذ لم تعد " لغةُ الحوار " هي الشاغل الأول كما كانت سابقاً .

ولو تصفحنا أبرز ما كُتِبَ ونُشر في النقد عن هذا الموضوع لوجدنا آراءَ متباينة ؛ بعضُها يدعو إلى الفصحى لغةً للأدب من منطلق عربي إسلامي للحفاظ على الموروث ، ولإثبات الهوية والمستقبل ، وبعضُها يدعـو إلى العامية لسهولتها ، وجماهيريتها ، ولأنها قد تكونُ في موقع معيّن لايمكن لغيرها أن يحلّ فيـه . وهناك بيانات نقدية وقفَ أصحابُها " بينَ بينَ " ، فدعو إلـى استخدام " لغة الوسـط " أو " اللغة الثالثة " التي تتميّز بأنها عربية فصحى بسيطة غير معقدة . ولكن ملامح اللغة التي تحدّث عنها هؤلاء لم تتكشّف لنا حتى الآن بكل أسف .

ج

مواقف جمالية داعمة :

إن الآراء النقديـة المذكورة كانت تنطلق - في المرحلة المذكورة، وماتلاها حتـى الآن - من مواقـف جماليـة متباينـة ، يعكسها وعـي جمالـي متباين ، يمكـن أن أوجزهُ فيما يلي :

أولاً  الموقف الجمالي التقليدي الذي يُعلي دائماً من شأن الآخر ، والموضوع ، على حساب الذات ، أعني أنه يرى الذات من خلال الموضوع . هذا الموقف يطالب بوجوب سيادة اللغة العربية الفصحى التقليدية دون الالتفات إلى طبيعة الموقف المسرحي ، أو طبيعة التباين في لغة الشخصيات ، أو البيئة المسرحية ، وما يتبع ذلك من تكوين ثقافي أو جمالي .

ثانياً  الموقف الجمالي ( التغريبي ) الذي يتخذ من النموذج الأوربي " مَثَلَهُ الجمالي " . وأصحاب هذا الموقف يطالبون بنسف الفصحى ، وسيادة العامية في الأدب ، والاتجاه الكلي نحو الغرب من خلال الاعتماد على نماذجه الأدبية وأساليبه الجمالية ، وغير ذلك حتى لو يكن ينسجمُ وطبيعة الأجناس الأدبية العربية . حتى لقد طالب بعضُ هؤلاء بتغيير الحروف العربية بحروف لاتينية . ولو عدنا قليلاً إلى الوراء  نجد أن جذور هذ التيار تعود إلى العصر العثماني حين  فُرضت آنذاك اللغة التركية في المعاملات الرسمية والقضاء ، وحُصرت اللغة الفصحى في المساجد والكتاتيب . وازداد الوضع سوءاً في العهد الاستعماري الحديث حيث فُرضت اللغات الأجنبية : الفرنسية والأنكليزية والإيطالية على الدول العربية المستعمرَة . وما يزال بعضُها يعاني حتى الآن من ذلك . ويُذكر أن أولى الدعوات إلى العامية وإلى قلب الحرف العربي إلى حرف لاتيني كانت في مصر على لسان أحد المستشرقين الألمان . فقد وضع كتاباً بعنوان ( قواعد العامية في مصر ) ومنه - كما يؤكّد معظم المهمتمين بقضايا العامية والفصحى - انبعثت الدعوةُ إلى العامية لسهولتها كما يُدّعى ، ولصعوبة الفصحى . ومن الدعوات التي تصبّ في هذا الجانب أيضاً الدعوة إلى كتابة الحروف العامية باللاتينية . ويرى أحدُ الدارسين العرب أن اللهجة الدارجة أنسبُ لأي مقام وأوقع في النفوس عند الخواص والعوام .

ومما يؤكّد قوّةَ هذا التيار واستمرارَه ما يحدثُ اليوم على شاشات التلفزة العربية . فالملاحظ أن العاميةَ حين تُقدّم على شاشـة معظم التلفزة العربية يوفّر لها مناخٌ جذّاب ، فيه غنى وتنوّعٌ ؛ من مقدّمات برامج ذوات مواصفات معيّنة إلى دعمِ تلك البرامج بالجوائز القيّمة التي تربط المشاهد حتى نهاية البرنامج ، إلى كل ما يفتنُ المشـاهدَ من قوّة الصورة البصرية ، بينما تُقدَّمُ الفصحى  في جوّ كئيب ، ، يؤكّدُه ديكورٌ بائس ، لا يخلو من بعث الشـعور بالملل لكل من يتابعه . وربما استُخدمت " كاميرا واحدة فقط . واذكر أن إحدى مقدّمات البرامج حصلت على جائزة أفضل مقدّمة برامج عام 1998م . ومن الأسباب الأساسية التي وردت في حيثيات الجائزة أنها - أي المذيعة - استطاعت ببراعة أن تنشر لهجةَ بلدها على مساحة واسعة بين المشاهدين .

ثالثاً الموقف الجمالي ( العائم ) الذي يرغب أصحابُه في الجمع بين النموذج العربي القديم ، والنموذج الغربي جمعاً تعسّفباً بطريقة لا تخلـو من التلفيق والهجانة ، فلاهي بالعربية ، ولا هي بالغربية . وهناك من يُسمّي هذا الموقف بالموقف التلفيقي .

رابعاً الموقف الجمالي الموضوعي ، وهو ينطلق من معطيات اللغة العربية المعاصرة ، ومدى حاجة الأجناس الأدبية إليها . فهو يطالب بأن تكون الفصحى لغةً  للأدب من منطلق المحافظة على لغة مشتركة ، لكن طبيعةَ الفصحى التي يطالبُ بها أصحابُ هذا الاتجاه هي الفصحى التي تنسجم وطبيعة الواقع المعاصر من حيث اختيار المفردات السهلة ، ووضعها في تراكيب سهلة بحيث تؤدّي الغرض المرجوّ منها . ولكن - مقابل ذلك - لايرفض هؤلاء أن تُستخدمَ العاميةُ في مواقع معيّنة وبخاصّة في لغة الحوار ؛ بمعنى أنهم لا يمانعون من إدخال مفردات عامية إذا دعت الضرورة إلى ذلـك فـي سياق الأجناس الأدبية ، وبخاصّة لغة الحوار في المسرح أو القصة القصيرة أو الرواية ؛ لأن ذلك يؤدّي إلى حالة من التواؤم الفعّال بين طبيعة الحوار والشخصيات التي تمارسه .

ويعتقد هؤلاء أيضاً أن استخدام الأجناس الأدبية للغة عربية سهلة ، ونجاحها في ذلك سيساعد - من خلال دعم وسائل الاتصال الفضائية العربية اليوم - على كسر الهوة بين الفصحى والعاميّات ، ويخلق لغةً مشتركة واحدة .

د

اتجاها الفن واللعب ، والفن والمنفعة :

إن المواقـف الجماليـة المذكورة لهـا علاقـةٌ وطيـدة باتجاهين فلسفيين أثـّرا تأثيراً كبيراً في موقف النقـد الأدبي من لغـة الحـوار في المسـرح ، وفي غيره من الأجناس الأدبية . والاتجاهان هما :

1-: الاتجاه الذي يربط جمال الفن ومن ضمنه الأدب بالمنفعة . ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن جمال الفن والأدب يزداد كلما ازدادت المنفعـة التي يقدّمها ، ويقلُّ جمالُه بقلّة ما يقدّمه من منفعة ، ويصبح قبيحاً إذا خلا منها .

2-: الاتجاه التي يربط جمال الفن باللعب ، وهو يَعتبر أن ارتباط أي جنس أدبي مثلاً بمنفعة حتى لو كانت قليلة ستفسدُ جمالَه ، وتجعله قبيحاً . والنقّاد الذين ينطلقون من هذا الموقف لايهمهم كيف تكون لغةُ الأدب ؟ المهم عندهم أن يحقق هذا العملُ الإبداعي : اللعبَ أو مقولةَ الأدب من أجل الفن ؛ بمعنى إذا كانت العامية تحقّق هذا الأمرَ ، فيجب أن التمسّك بها حتى يظلّ الأدبُ جميلاً .

       إن النقد العربي المعاصر كان ينطلق ، وما يزال من المواقف الفلسفية والجمالية المذكورة في تحديد موقفه من لغة الحوار المسرحي ، ولغة الأجناس الأدبية الأخرى .

هـ

ملامح المشهد اللغوي الراهن للعربية :

إن المشهد الراهن للغة العربية لا يُنبيء بانفراج قريب على صعيد الفصحى ، بل يُلاحَظ أن اللهجات العامية تتغلغل على مستوى واسع ، وعلى أصعدة مختلفة . وكل ذلك ينعكس على بشكل مباشر على الاستحسان الواضح لعامية الحوار المسرحي من قبل الجمهور ، وكثير من النقاد .

وسأرسم - فيما يلي - صورة للمشهد اللغوي الراهن في الوطن العربي ، ويمكن لنا بعد ذلك الحكم على مدى خطورة ما يجري :

أولاً - :  هناك اليوم عدّة أشكال للغة العربية الفصحى ، من أبرزها : الشكل التقليدي ، والشكل الحداثي ، والشكل الذي يتأرجح " بين بين " . ولكل شكل من هذه الأشكال مصطلحاتُه ومرتكزاته الفلسفية والجمالية ، وأنماط تفكيره التي تتميّز تميّزاً بيّناً من الآخر .

ثانياً- :  هناك عدّة لهجات متداولة في الوطن العربي . والإنسان العربي ينشأ على اللهجة العامية ، ثم يتعلّم الفصحى على مقاعد الدراسة . وهذا يشكّل له ، أي لهذا الفـرد ثنائيةً لا تجعلُه قادراً علـى الاستقرار باتجـاه معيّن . ويظل قلقاً على الدوام .

ثالثاً - : ومن سمات الوضع اللغوي الراهن أيضاً أن هناك أناساً غير عرب ينطقون اللغةَ العربية ويعيشون ثنائية لغتهم الأساسية ، واللغة العربية الفصحى التي تعلّموها .

رابعاً - : هناك تأثيرٌ كبير للغات الأجنبية في الباحثين العرب . فهم يفكّرون علمياً باللغة الأجنبية التي أكملوا دراساتهم بها ، ويفكّرون باللهجة العامية في سلوكهم العادي اليومي . وهذه ثنائية لغوية أخرى لها انعكاساتها السلبية على العربية الفصحى ، وعلى الفرد بوصفه باحثاً ، أو متلقياً عادياً لعمل فني .

خامساً - : لكن الأمر الذي يزيد من خطورة الموقف الراهن هو التناقض شبه المستمر بين نمطين ليس لهما علاقةٌ مباشرة بالنقد ، ولكنهما يؤثّران فيه ، وفي ثنائية الفصحى والعامية ، هما :

1- الموقف الرسمي الذي يطالبُ أن تكون الفصحى هي لغة الحوار المسرحي والأدب . ويتبنّى هذا الموقف مجامعُ اللغة العربية ، والجهاتُ الأكاديمية الرسمية . وهؤلاء يتبنون الموقفَ الجمالي التقليدي الذي ذكرناهُ سابقاً . وقد يكون تمسّكُ هؤلاء بالفصحى في كل شىء ، ومنها مثلاً لغةُ الحوار المسرحي لمجرّد أنها فصحى ، أسـاءَ إلى العربية الفصحى في أحايين كثيرة .

2- الموقفُ غير الرسمي ، أو الموقف الراهن الموجود على حيّز الواقع الذي يؤكّد أن للعامية حضوراً مميّزاً في كل مكان ، وعلى خشبة المسرح .

أمام هذا المشهد القائم من تعدد اللهجات العامية ، وتمكّنها ، وثنائيةِ العامية والفصحى ، وثنائية الخطابين التقليدي والحداثي ، وثنائية الوعي الجمالي التقليدي والوعي الجمالي الغربي ، وثنائية الجدّ واللعب ، أي المنفعـة والفن للفن . أقول : أمام كل هذه الثنائيات يبدو الواقع اللغوي الراهن الآن للعربية الفصحى صعباً ، وشائكاً ، ويكـاد يُعطـي للعاميـة إمكانات السبق في معظم الحقول .

و

محطّات في لغة المسرح العربي الحديث منذ النشأة حتى الآن :

لم يعرف العربُ المسـرحَ قديماً لأسباب متعدّدة لامجال لذكرها هنا ، فهم لم يكتبوا " النص المسرحي " بمعناه الاصطلاحي ، وإن كانت لهم ممارساتٌ مسرحية كانت تتبدو في الحفلات والأعراس والأعياد الجماعية .

إن المسـرح العربي مديـنٌ - كما هو معـروف - بنشوئه إلى الغرب الأوربي . وهو - إلى جانب القصّة القصيرة ، والرواية - نتيجةٌ لعملية المثاقفة التي تمّت في القرن الماضي بين الثقافتين الغربية والشرقية ، وما تزالُ مستمرّة .

ويمكن اعتبارُ مسرحيةِ " البخيل " لمارون النقّاش التي كتبها هو ، وأخرجها على خشبة المسرح في بيت جدّه ببيروت عام / 1847م أوّلَ مسرحية عربية تُدخِلُ فنَّ المسرح إلى اللغة العربية ، وتجعله واقعاً ملموساً . ولابدّ من الإشارة إلى أن المسرحية المذكورة ليس لها علاقةٌ بمسرحية البخيل للكاتب الفرنسي موليير .

وتنبع أهميةُ مسرحية النقّاش من أنها - إلى جانب ما تقدَّمَ - أوّلّ مسرحية عربية تُثير إشكالية " العاميّة والفصحى " في المسرح العربي .

لقد قدّم النقّاش مسرحياتٍ متعـدّدة - إلى جانب البخيل - مثل :  أبو الحسن المغفّل / 1849م ، و الحسود السليط / 1853م . ولعل أبرز ما يُشار هنا أن تلك المسرحيات قُدّمت بلغةٍ اختلطت فيها العربيةُ الفصحى بالعامية الركيكة بالتركية .

ويمثّل المرحلة التالية - بعد النقّاش - الكاتبُ السوري أبو خليل القبّاني الذي قدّم مسرحياته الأولى في أحد بيوت دمشق القديمة ، ثم رحل إلى مصر . وفي القاهرة قدّم مسرحيات أنيس الجليس والأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب وعفيفة وعنترة ، وغيرها .

والملاحظة الهامة - في هذا المجال - أن لغةَ المسرحيات التي كتبها ، ثم قدّمها على خشبة المسرح كانت قائمةً بالأساس على العامية ، والتركية ، وقليل من الفصحى .

ولا يخرج الرائد المسرحي الثالث يعقوب صنّوع  عما بناهُ زميـلاهُ المذكوران . فقد قدّم اثنتين وثلاثين مسرحية تاليفاً وإخراجاً وتمثيلاً أغلبها يصوّر الواقع الاجتماعي في مصر آنذاك معتمداً على الدعابة الشعبية والأغاني الشائعة واللهجة العامية .

لقد أردتُ من خلال الإطلالة السريعة على جانب من جهد روّاد المسرح أن أؤكّد مسألتين :

الأولى أن مشكلةَ العامية والفصحى ليست طارئةً على المسرح العربي . فقد لازمته منذ نشوئه ، واستمرّت معهُ حتى الآن .

الثانية أن مسـرح الروّاد الأوائل جعـل من العامية أساساً في المسرح . وما يزال المسرح العربي منذ مسرحية البخيل للنقّاش حتى الآن ملتزماً بالعامية كأساس ، ومنطلق .

وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد الحديث عن مراحل المسرح العربي ، لكن لابد لنا من الإشارة إلى أن المرحلة الثانية في المسرح العربي التي يُطلق عليها " المرحلة الرومانسية أو مرحلـة الأوربة " والتي مثّلهـا جورج أبيض ، ويوسـف وهبي ، ونجيب الرياني ، وغيرهم لم تخرج - على صعيد اللغة - عمّا اختطّه الروّاد . وكانت اللهجةُ العامية هي السائدة في لغـة " النص المسرحي  المكتوب " ، و" لغة الممثّل "  على خشبة المسرح .

لقد نَمَا المسرحُ العربي في هذه المرحلة الثانية نموّاً لافتاً ، وبدا واضحاً تأثّره بالمسـرح الأوربي والروسي ، وكذلك بالمدارس الأدبية والفنية ، مثل : السريالية ، والوجودية ، والواقعية ، والرمزية ، وما إلى ذلك من أسطورة ، ورمز ، وتقنيات فنية جديدة . 

ولكن لو بحثنا في مسرح تلك الفترة عن ملامح لمسرح عربي لانكاد نقع على شيء بسببٍ من غلبة العناصر الغربية على الشرقية العربية .

ولو تركنا طورَ النشأة ثم طور النمو ، وانتقلنا إلى مرحلة النضج لوجدنا أن الأفقَ المسـرحي العربي أصبح أكثرَ رحابة ، واتساعاً وغنىً وتنوّعاً . ويمكن القول : إن التجربة المسرحية لدى الكتّاب العرب تبلورت ونضجت في هذه المرحلة كمّاً وكيفاً . وظهر جيلٌ جديد مدعوم بثقافة مسرحية ووعي جمالي مسرحي . وخلال هذه المرحلة التي تمتدّ حتى الآن ازدادت عملية المثاقفة مع الغرب والشرق عبر الاحتكاك المباشر والترجمة ووسائل الإعلام المختلفة ، وأُسّست المعاهدُ المسرحية العُليا في بعض العواصم العربية ، وظهر كُتّاب كبار في كتابة النص المسرحي مثل : توفيق الحكيم ، ويوسف إدريس ، ومحمّد الماغـوط ، وسـعد اللّـه ونّوس ، ووليـد إخلاصي ، ومصطفى الحلاّج ، وغيرهم .

لكن الملاحظ هنا أنه على الرغم من كل التطوّر الذي أصاب ثقافةَ الكاتب وتقنيات المسرح على كافـة الأصعـدة ، فإن العاميـة كانت أحـدَ هواجسـه التعبيريـة في لغة الحوار المسرحي .

وأودّ أن أُشير هنا إلى أنه إذا كانت العامية قد رافقت " النص المسرحي " منذ نشأته ، فإن " المسرح التمثيلي " كان مفتوناً بالعامية . فمنذ " البخيل " للنقّاش مروراً بالمسرح الغنائي لأبي خليل القبّاني والمسرح الشعبي الكوميدي ليعقوب صنّوع ، فيوسف وهبي ، والريحاني حتى المسرح التجاري لدريد لحّام ، وعادل إمام ، ومحمد صبحي ، وغيرهم كانـوا جميعاً يقدّمون مسرحَهم بالعامية ، اللهم باستثناء ما يقدّمه طلاّبُ المعاهد المسرحية العليا من أعمال مسرحية لعرضها على اللجان لإجازة هؤلاء الطلبة حتى يتخرّجوا ، وليس لغاية عرضها على الصعيد الجماهيري .

أما ما تقدّمه المسارح القومية في سورية ومصر وتونس فهو قليلٌ من حيث الكم ، وضيفُ الفاعلية من حيث التأثير والكيـف بسبب ضعف الدعم الإنتاجي له ، وأسباب أخرى لامجال لذكرها .

إن المسرح السائد هو مسرح القطاع الخاص . وهذا المسرحُ لا تعنيه اللغةُ الفصحى بقدر ما يعنيه الربح المالي . وهو مسرحٌ ذكي لأنـه يعـرف تماماً ما يريده " النظّارة " منه . ولا بد لي من الإشادة بالمسرح الشعري العربي الذي كان يسعى إلى مقاربة الشعر في لغته . ومن أبرز شعرائه : أحمد شوقي ،  وسليمان العيسى ، وصلاح عبدالصبور ، وخليل مردم ، وخالد محيي الدين البرادعي ، وممدوح عدوان ، وغيرهم .

ز

نتائج :

يُلاحظ من خلال استعراضنا السابق ، ومناقشتنا لجانب من المعارك النقدية التي دارت حول لغة المسرح ، ولأبرز النظريات الجمالية الداعمة لذلك ، وكذلك من خلال عرضنا الموجز للغة المسرح بدءاً بجيل الروّاد ما يلي :

1-                   إن العامية كانت وما تزال هاجس " النص المسرحي " ، وأساس " المسرح التمثيلي " . وهذه العاميةُ أضحت عاميّات . ومن النادر أن نجدَ مسرحيةً لم تخضع لإغراء تلك " العاميات " ، حتى إن بعض المسارح القومية كانت تقدّم مسرحيّاتها باللغة الفصحى ، وكان كثيرٌ من النقّاد والجمهور لا يعتبر ذلك مسرحاً ، بل يعدُّونه نوعاً من أنواع تأدية الواجب القومي ، أو أن المسرحَ القومي غيرُ جاد ؛ لأنه سيقدّم استعراضاً خطايباً للغة الفصحى ، وليس مسرحاً . ومعظمُ هؤلاء يعتقدون أن هذا النوعَ من العروض المسرحية لن ينجحَ لأنه مكتوب باللغة الفصحى .

2-                  ناقشَ النقدُ الأدبي بعامة ، والنقد المسرحي بخاصّة مشكلةَ العامية والفصحى في المسرح ، وفي غيره من الأجناس الأدبية . وكان ذلك النقدُ - حتى المتشدّد منه - أكثر مَيلاً إلى التباسط مع العامية في الحوار المسرحي ، وبخاصّة حين يُقدّم " النصُّ المسرحي " على خشبة المسرح ، باعتبار أن العاميةَ حالةٌ واقعة لابدّ من الاعتراف بحضورها  في المسرح ، وهي من خلال ذلك قادرة على التعبير عن أبعاد الشخصيات والأحداث ، وقادرة على إثارة الكوميدي والتراجيدي ، ورسم الجميل ، والقبيح ، وتكوين الجليل ببراعة متناهية . والعاميةُ بهذه الصورة ، ومن منظور جمالي تُعتبر جميلةً لأنها تؤدّي الغرض الذي وُضعت لأجله . ولأن هناك من يجعلُ العامية كذلك فقد راجت وصار لها جمهورُها الواسع ، وسحرها الخاص ، بـل أصبحت العاميـة تتحكّم بتغيير الذوق الاجتماعي . والعامية - من خلال تملّكها المذكور - حين تكون غير ذلك تبدو قبيحةً من وجهة نظر هؤلاء .

إننا ندعو إلى أن تكون اللغة العربية الفصحى لغةَ الحوار المسرحي ، بل لغة الأجناس الأدبية جميعاً دون استثناء ؛ فالعربيةُ ليست مجرّدَ مفردات جميلة فحسب ، وإنما هي تمثّل عمقَ شخصيتنا الحضارية ، وحاضرها ، وعن طريقها صاغ الإنسان العربي - عبر الآف السنين - مشاريعَه الحضارية ، والجمالية ، وعن طريقها أيضاً أهدى إلى العالم أبجديات المعرفة الإنسانية . إن العربية الفصحى يجب أن تكون لغةَ مستقبلنا . ولايتم ذلك إلا إذا ساهم الأدبُ في استثمار طاقاتها في الحوار ، والتعبير ، والتصوير . ولكن ينبغي ألا ننسى مراعاةَ " بيئة الحوار " ، و" لغة الحوار " بين الشخصيات على الصعيد الثقافي ، وكذلك " الموروث الشـعبي " الذي صيغ أساساً بالعامية ، ولايمكن أن يُقدّم إلا عبر تلك الصيغة . أعني أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التفاوت النسبي بين الشخصيات ، وكذلك الأمثال والأغاني والحكايات ، وما إلى ذلـك . ونتمّنى أن يقوم المعنيون بشـؤون الكتابة في المسرح أو الأدب بجعل الفصحى تقوم بذلك ، بدلاً من العامية ، إذ نظن أن المشكلة عائدة إلى من يستخدم العربية ، وليس إلى العربية ذاتها . وحين لا يستطيع هؤلاء جعلَ الفصحى تحقّق ذلك ستصبح قبيحـةً ، ومستهجنة ، وستحلّ العاميةُ - دون أي استئذان - مكانها ، كما هو حاصل الآن .

وأودّ أن أُشير - قبل أن إقفال الحديث في هذا الموضوع - إلى أن معظم الذين استخدموا الفصحى في الحوار المسرحي لم ينجحوا في تطويعها لتصبح جزءاً من الشخصية التي تتحدّث بها ، بل - دائماً - كنا نحسّ أن الشخصية شيءٌ والحوارُ الذي تتحدّث به شيءٌ آخر منفصلٌ عنها تماماً إلى جانب الخطاب المنبري الذي يُعدّ من أبرز سماتها ، لذلك كانت الفصحى - في المسرح -  تخسرُ من الجولة الأولى أمام العامية . وإذا ما أردنا للفصحى أن تسود ، ولو بشكل نسبي ، فينبغي أن نثق بها أولاً ، وأن نقتنع بقدرتها على النجاح ، وينبغي ثانياً أن يكون الكاتب قادراً على توظيفها توظيفاً صحيحاً بحيث يجعلها جزءاً من الشخصية ، وينسحب هذا الكلام على المخرج والممثل وكاتب السيناريو ، وكاتب الحوار . وينبغي أن يدعـم كلَّ ذلك وسائلُ الإعلام المختلفة ، وبخاصّة المؤثّر منها ، وأن تتخلّص الجهات الأكاديمية المعنية بهذا الأمر من المبالغة في الطرح . واعتقد أننا بهذه الصورة نستطيع أن نساهم في جعلها - ربما - في المرتبة الأولى ، وجعل العامية في المرتبة الثانية ، وليس العكس كما يجري الآن .