حول العنوسة والظاهرة السكانية

بقلم الدكتور/ أسامة  أحمد عثمان*

 

دار نقاش في الصحف المحلية مؤخراً حول عنوسة الفتيات في بلادنا .  واختلفت التقديرات حول حجم هذه المشكلة . ثم صدر "توضيح" من وزارة التخطيط شابه شيء من الغموض في اخره، ومؤداه حسب ما فهمت أن "نسبة السعوديات اللاتي تجاوزن سن 25 عاماً ولم يتزوجن حتى الآن تبلغ اثنين في المائة فقط من إجمالي الإناث" .  وإذا صح هذا التقدير وافترضنا أن عدد السكان من السعوديين هو حوالي ستة عشر مليوناً ،منهم خمسون في المائة من الإناث ،فإن هذا يعني أن هناك حوالي مائة وستين ألفا من الإناث العوانس في الوقت الحاضر .  ولكن بيان وزارة التخطيط لم يعط تعريفا واضحا للعانس . إذ يدخل في إجمالي الإناث الصغيرات اللائى لم يحضن ، كما يدخـل فيه القواعد من النساء اللائى لا يرجين نكاحاً .  ولذلك فإن إعادة طريقة الحساب ستؤدي إلى وجود نسبة للعانسات أكبر بكثير مما ورد في بيان الوزارة .  ويمكن التوصل لمثل هذا التعريف بالقياس إلى تعاريف في مجالات أخرى .  فمثلا يحسب عدد العاطلين عن العمل في مجال الاقتصاد بأنه عدد الذين يبحثون بجد عن عمل  ، ولكنهم لا يجدونه ويخرج بهذا التعريف المتكاسلون عن البحث عن عمل .  وقياسا على هذا التعريف فإنه يمكن تعريف العانس بأنها الأنثى التي هي في سن الزواج  وتنتظر زوجاً مناسبا لها  ولكنه لم يأت بعد .  ويخرج بهذا التعريف من هن في سن الزواج ولكنهم لسبب أو لآخر لا يرغبن في الزواج في الوقت الحاضر .  ولكن يدخل في  التعريف كل من فقدت زوجها بالوفاة أو الطلاق مادامت راغبة في الزواج مرة أخرى .

 

وعند البحث عن أسباب العنوسة تبرز العوامل الاجتماعية والاقتصادية كالمبالغة في تكاليف الزواج بالإضافة إلى ضيق ذات اليد كأسباب مباشرة وظاهرة بحيث أنها لا تحتاج إلى مزيد من البحث بقدر ما تحتاج إلى علاج فعال .  ولكن هناك عاملين آخرين مساعدين غير مباشرين ومترابطين . أولهما النسبة العالية لنمو السكان و التي تبلغ عند تقديرات متحفظة 3.7 في المائة  .و هي من أعلى النسب في العالم .  وأما العامل الثاني فهو انتشار التعليم بين النساء بحيث أصبح لإكمال الفتاة قدراً معيناً من التعليم أولوية على الزواج .  ونتج عن هذا تأخر سن الزواج بالنسبة لكثيرات من بنات بلادنا . و  قد يتبع الرغبة في التعليم الرغبة في العمل.

 

ومن المدهش أن لا ينعكس هذا سلبا على نسبة نمو السكان ، إذ أن هذا هو المشاهد في كثير من دول العالم .  وربما كانت لظاهرة خدم المنازل دور في ذلك .  إذ أن كثيراً من الأمهات يلقين ببعض العبء في العناية بالأطفال وشؤون المنزل على الخادمات ، مما يشجعهن على إنجاب عدد أكبر من الأطفال .  كما أن خروج بعضهن إلى العمل يوفر دخلا إضافيا للأسرة مما يشكل عاملا إضافيا آخر في تزايد الرغبة في الإنجاب .  وهكذا فإن البحث عن الرفاهية المادية ربما أثر على الإشباع العاطفي والتربوي لعدد متزايد من أطفالنا . و لذلك فإني لا أرى معدل نمو السكان  أو عدد سنوات الدراسة أهدافا في ذاتها و منعزلة عن غيرها ، و لكن الهدف الأسمى هو في توفير الظروف المناسبة للعناية بالإنسان المسلم منذ الطفولة.

وقد يقول قائل أنه في ضوء النسبة العالية جداً للنمو السكاني فإن وجود بضعة آلاف من العوانس والعانسين ليس أمراً سيئا بالضرورة ، وهذا مفهوم خطير جداً .  فالآثار الاجتماعية والنفسية و البدنية للعزوبة ليست مما يمكن تقديره بشكل مادي دائما. فالحاجات العاطفية  و الجسدية ليست مما يمكن تحويره أو كبته لأمد طويل أيا ما كانت المبررات. ولذلك فإن تشجيع الذكور والإناث على الزواج ضرورة اجتماعية وأخلاقية .  "إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" .  والحق أن الجهل بحقوق المرأة في الإسلام يشكل عقبة كؤداً في سبيل حل المشكلة. وهنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني (أي غير الرسمي) كأئمة المساجد والجمعيات الخيرية والجمعيات النسائية وأصحاب وصاحبات المكانة الاجتماعية في حل مشكلة العنوسة .

ومن المفارقات الطريفة أن يؤدي خروج المرأة الأوروبية والأمريكية إلى العزوف عن التناسل لا بل عن الزوج أصلاً ، بينما قد يكون خروج المرأة عندنا للعمل مؤديا إلى زيادة النسل . و بعبارة أخرى ، فإن خروج المرأة عندنا للعمل لم يؤدى إلى عزوف الرجال والنساء عن الزواج  من ناحية المبدأ حتى الآن .  صحيح أن هناك فوارق كبيرة بين خروج المرأة للعمل في مجتمعنا مقارنا بالمجتمعات الأخرى ، إلا أن الأمر يدور حول أهمية الالتزام بالدين ودوره في الحفاظ على النسيج الاجتماعي .  وأرجو أن يبقى هذا النسيج قويا ، لا بل وأرجو أن يزداد قوة .  ومن الخطورة بمكان أن تتقدم العوامل المادية على العوامل الأخلاقية والاجتماعية والنفسية في حسابات الأفراد والجماعات .



*الدكتور/أسامة  أحمد عثمان

 أستاذ الاقتصاد المشارك

 جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

 osama@kfupm.edu.sa