الثقافة والقيم الأخلاقية[1]

 

 

 

د. مصطفى عشوي

أستاذ مشارك

 

قسم الإدارة والتسويق

جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

الظهران

المملكة العربية السعودية

 

 

 

 

 

 

 

- مقدمة:

ماهي العلاقة بين الثقافة والقيم الأخلاقية؟ هل هناك أزمة ثقافة في العالم العربي أم هناك  أزمة أخلاق؟  وهل  الأزمة أزمة مركبة أي ثقافية وأخلاقية؟

هذه أسئلة عامة يريد الباحث طرحها للنقاش وللبحث العلمي الميداني راجيا أن تتبنى المشروع -كبحث ميداني في هذا المجال- مؤسسة علمية في العالم العربي للخروج بإجابة موضوعية لهذه الأسئلة.

ويتمثل هدف هذه الدراسة  التمهيد لهذا المشروع الضخم؛ وذلك بتحديد المفاهيم، وتبيان العلاقة بين الثقافة والأخلاق، وعرض بعض الدراسات السابقة التي طرحث مشكلة الثقافة وأزمة القيم في العالم العربي والإسلامي مثل دراسات مالك ابن نبي، وكذلك في العالم الغربي مثل دراسات فيبر وأغبورن وغارودي بالاضافة إلى طرح لإشكالية التناقض بين القيم النظرية والقيم العملية (السلوك) الملاحظ على المستوى الفردي والمجتمعي في العالم العربي - الاسلامي.

- مفهوم الثقافة: مفهوم الثقافة جديد نسبيا في اللغة العربية ولكنه أصبح الآن مصطلحا شائعا في الدراسات الاجتماعية والنفسية والانثروبولوجية وفي الدراسات الأدبية والفنية في العالم العربي.

وقد أصبح موضوع الثقافة محورا لمؤتمرات وندوات كثيرة عربية ودولية؛ ومنها مثلا الندوات والمؤتمرات التي عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حيث نشرت أعمالها في موسوعة "الخطة الشاملة للثقافة العربية"[2].

 ومن آخر المؤتمرات الدولية في الموضوع، مؤتمر استوكهولم الذي انعقد سنة 1998 تحت عنوان "المؤتمر الدولي الثاني للسياسات الثقافية". وقد جاء تعريف الثقافة في هذا المؤتمر بأنها "بمعناها الواسع، قد تكون اليوم عبارة عن جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات..."[3].

ويتبين من هذا التعريف العام أن للثقافة جوانب مادية وروحية، وأنها قد تكون ثقافة أساسية وثقافة فرعية خاصة بفئة أو فئات ضمن مجتمع ما؛ مما يعني الاعتراف بالتنوع الثقافي في المجتمع الواحد، كما يعني هذا عدم الانسياق وراء مفهوم عولمة الثقافة مما يغمط حق الثقافات الأخرى في الوجود والنمو والارتقاء.

ومهما يكن، فإن هذا التعريف يتماشى مع مجموع التعاريف التي قدمها علماء الاجتماع والمفكرون لهذا المفهوم كما يتبين من التعاريف التالية:

 

- تعريف هوفستيد:

عرف هوفستيد سنة 1980 الثقافة بأنها: "الخصائص والقيم المشتركة التي تميز مجموعة من الأفراد عن المجموعات الأخرى"[4].

- تعريف كوفالرون:

أكد كوفالرون أن الثقافة بجوانبها المادية وغير المادية من خلق الإنسان وهي بالتالي تعبير عن مستوى تقدمه حيث قال: "تشمل الثقافة القيم المادية واللامادية التي يخلقها الانسان في سياق تطوره الاجتماعي وتجربته التاريخية. وهي تعبر عن مستوى التقدم التكنولوجي والانتاج الفكري والمادي والتعليم والعلم والأدب والفن الذي وصل إليه المجتمع في مرحلة معينة من مراحل نموه الاجتماعي والاقتصادي . وبجملة موجزة هي إنجازات الانسان التي يعبر بها من خلال حياته وطرائقه في التفكير والسلوك والعمل والتي تأتي نتاجا لتفاعله مع الطبيعة ومع غيره من البشر"[5].

ويرى التحليل المادي للثقافة وللقيم أن هناك علاقة بين القيم الثقافية كأهم موجه للسلوك الاجتماعي للفرد والظروف المادية السائدة في المجتمع. ومن أمثلة هذا المنحى في التفكير ما أورده فراج (1992) حيث قال: "وإذا كانت القيم الثقافية من أهم العوامل الموجهة للسلوك الاجتماعي للفرد فإن القيم الثقافية والعناصر الثقافية الأخرى المختلفة تتشكل من خلال الظروف السائدة في المجتمع المعين"[6].

فهل الثقافة هي الأساليب والقيم التي يبتكرها الإنسان فحسب، أم أن هناك بعدا روحيا للثقافة يتمثل خاصة في القيم الروحية التي يعتنقها الإنسان وتؤثر في سلوكه إلى جانب أنواع أخرى من القيم مثل القيم الجمالية والفكرية والاقتصادية والسياسية؟ قد نجد جوابا لهذا السؤال في فكر ابن نبي وغيره من الباحثين والمفكرين مثل فيبر وأغبورن.

- تعريف ابن نبي:

 حاول ابن نبي في كتابه "مشكلة الثقافة" أن يقدم تعريفا لمفهوم "الثقافة" تعريفا أصيلا لم يتأثر بالتعاريف السائدة عند العلماء الاجتماعيين والأنثروبولوجيين الغربيين؛ فأورد أصل الكلمة في اللغة العربية وأصل الكلمة في اللغة اللاتينية ثم انتقل إلى تحديد عناصر الثقافة وتحديد تكامل وتفاعل هذه العناصر وإلى تحديد دور الأخلاق في تركيب عناصر الثقافة.

وبعد تحديد مفهوم الثقافة من الناحية اللغوية، انتقل ابن نبي إلى تحديده من الناحية النفسية والاجتماعية معرفا بذلك الثقافة بأنها: "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقنها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه. والثقافة على هذا، هي المحيط الذي يشكل الفرد فيه طباعه وشخصيته"[7].

وقد أقام ابن نبي علاقة وثيقة بين الثقافة والسلوك مؤكدا أن: "السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة وأوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات وهذه هي الثقافة".[8]

و عليه، فإن الثقافة كما أكد ابن نبي على ذلك مرارا عبارة عن نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة[9]. والمقصود بهذا أن الثقافة ليست علما بل هي بيئة ووسط ومحيط ذو بعد روحي قبل كل شيء بحيث تتكون في هذا المحيط جميع خصائص المجتمع المتحضر، وتتشكل فيه كل جزئياته وفقا للغاية التي رسمها المجتمع لنفسه. وفي هذا الإطار أو المحيط يتحرك الإنسان بفعالية ليغذي مجرى الحضارة[10].

وبناءا على هذا التعريف، فإن هناك علاقة وثيقة بين الثقافة والسلوك، والعلاقة بينهما علاقة ارتباطية وليست سببية بالضرورة؛ أي أن القيم سواء كانت روحية أم جمالية أم اقتصادية أم تربوية هي جزء من ثقافة ما؛ أي أن كل ثقافة مهما كان مستوى ارتقائها تتضمن قيما معينة.

وسنلاحظ بعد قليل أن علماء الاجتماع الغربيين مثل أغبورن قد عرفوا الثقافة بجوانبها المادية واللامادية؛ وهذا التعريف منسجم تماما مع تعريف كوفالرون للثقافة الذي ورد أعلاه. فكيف عرفت القيم من طرف المفكرين المسلمين والغربيين؟

- القيم: تعرف القيم بأنها المعايير والاعتقادات التي يستعملها شخص ما عندما يواجه وضعا يجب عليه القيام باختيار ما. وعليه، فالقيم هي مجموع ما يحبه الشخص ويكرهه ووجهات نظره وميوله وأحكامه العقلانية واللاعقلانية وتحيزه والتفسير الذي يقوم به شخص ما للعالم المحيط به[11].

وقد عرف عالم النفس الأمريكي ألبورت "القيم" بأنها اعتقاد يوجه سلوك شخص ما حسب معيار الأفضلية. وقد صنف ألبورت القيم إلى خمسة أنواع: القيم النظرية، القيم الاقتصادية، القيم السياسية والقيم الدينية[12]. وتنطوي الأخلاق حسب ألبورت ضمن القيم النظرية والقيم الدينية.

ولكن روكيش يوضح دور القيم الأخلاقية في توجيه السلوك بصفة أوضح مما فعله ألبورت؛ وذلك في كتابه "طبيعة القيم البشرية" حيث بين أن القيم الأخلاقية تتطلب القيام بالسلوك الذي ينفع الآخرين ولا يضرهم، وإن أي تعد لهذه القيم أو اعتداء عليها يؤدي بالشخص إلى الشعور بالذنب[13].

وكما تؤثر القيم في السلوك فإنها تؤثر أيضا في الاتجاهات التي يعتنقها الشخص، كما تؤثر في إدراكه وتفسيره لمحيطه البيئي والاجتماعي. وبالتالي فالقيم هي التي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات وتوجهه بناءا على ما يعتقدونه من اعتقادات وما يحملونه من اتجاهات. ولاشك، أن هذا النقاش يؤدي بنا إلى طرح موضوع القيم الإسلامية على المستوى النظري والمستوى العملي، ومدى تطابق المستويين أو تنافرهما.

- القيم الإسلامية:

عرف قميحة القيم الاسلامية بقوله: "القيم الاسلامية هي مجموعة الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية وتجعلها متكاملة قادرة على التفاعل الحي مع المجتمع، وعلى التوافق مع أعضائه وعلى العمل من أجل النفس والأسرة والعقيدة"[14].

والقيم الإسلامية عنده نوعان:

1- القيم السلبية أو قيم التخلي عن المحرمات مثلا.

2- القيم الإيجابية وهي المطلوب التحلي بها مثل مكارم الأخلاق كالصدق والأمانة والرحمة وصلة االرحم والكرم  وحسن الجوار[15]. ومن خصائص القيم الإسلامية -كما ذكر- التدرج في التكليف والوسطية العادلة والهيمنة التشريعية[16].

أما إبراهيم (1982)، فقد بين أن الفضائل الأخلاقية قد تصنف تصنيفا منهجيا قائما على مبدأ التدرج في الخيرات والفضائل (تدرجها في الأهمية وفي الوجوب والعلو)، وعلى الطبيعة الغالبة في االتعاليم الخلقية أمرا ونهيا. وعلى هذا الأساس صنفت الفضائل إلى أساسية وعليا. وبين نفس الكاتب أن الأخلاق الإسلامية عبارة عن مذهب متسق لا مجموعة من التوجيهات والآداب المتناقضة المهوشة[17]. وأثبت لهذه الأخلاق ثلاثة مبادىء عامة حاكمة:

1- مبدأ السعادة الأخروية بوصفها الغاية القصوى للفضيلة.

2- مبدأ الغيرية بوصفها الشرط الضروري للأخلاق (تحقيق خير الآخرين ممن ليسوا بالأهل).

3- مبدأ التناسق الخلقي بوصفه المعيار العام الذي يضبط ممارسة الأخلاق.

وبين نفس الكاتب أن للأخلاق الإسلامية بعدا إنسانيا يتمثل في عدم التمييز على أساس جنسي أو عقيدي أو غير ذلك[18].

أعتقد أن مفهوم التدرج الأخلاقي الذي تحدث عنه إبراهيم وغيره من الكتاب والمفكرين المسلمين في حاجة إلى دراسات نظرية وتطبيقية لتوضيح هذا التدرج على المستوى النظري من خلال النصوص، ومن خلال استطلاع مدى فهم المسلمين لهذا التدرج، وللأولويات الأخلاقية عند الأفراد والجماعات أثناء التطبيق والممارسة.

ولعل كتاب "شعب الإيمان" للبيهقي يشكل قاعدة نظرية تلخص أهم الأخلاق الإسلامية في أبعادها الروحية والوجدانية والإجتماعية انطلاقا من الحديث الشريف: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق".

ويبدو لي أن موضوع القيم عامة والقيم الأخلاقية خاصة في العالم العربي والإسلامي في أمس الحاجة إلى بحوث ميدانية لتوضيح القيم النظرية التي يؤمن بها الأفراد والجماعات ومدى تطبيقها في الواقع؛ وذلك للتناقض الملاحظ بين هذه القيم النظرية والسلوك العملي. وقد أكد هذه االملاحظة بعض الباحثين مثل الدكتور أبو المجد حيث لاحظ مثلا أنه "على الرغم من أن للعمل "قيمة كبرى" في التصور الاسلامي للإنسان الفرد وللمجتمعات الاسلامية ...وعلى الرغم مما تنص عليه دساتير أكثر الدول العربية من أن العمل شرف، فلا تزال قيمة "العمل" قيمة مهملة في الكثير من المجتمعات لعربية، كما لا تزال بعض التصورات المحيطة به تحتاج إلى جهد خاص لتصحيحها وتقويمها من خلال سياسة الارشاد الاجتماعي"[19]. وكما أن "قيمة" العمل مهملة من بعض قطاعات المجتمع، فإن قيما أخرى هامة في البناء الحضاري مثل قيمة الوقت والأرض والنظافة والنظام والانضباط والابداع والأمانة والوفاء والتضحية  مهملة إلى حد بعيد. وسأورد أمثلة من القرآن الكريم ومن واقع المجتمعات االعربية والاسلامية على التناقض والتنافر الموجود بين االقيم النظرية والسلوك لكي تصبح منطلقات للبحث الميداني في الموضوع.  

ولهذه الظاهرة؛ ظاهرة ضحالة بعض القيم وعدم بلورتها كسلوك يومي على المستوى الفردي والجماعي والتنظيمي والمجتمعي، أسباب في حاجة إلى بحوث لتحديدها وترتيبها حسب مدى تأثيرها في سلوك الأفراد والجماعات والمجتمعات العربية والاسلامية، وإن كان أبو المجد نفسه قد تعرض إلى هذا التباين فيما يخص "قيمة العمل" وذكر بعض أسباب ذلك. ومن بين الأسباب التي ذكرها "المبالغة في تصور أثر االكلمة واللفظ وإغفال العناية بالعمل وبالفعل، حتى قال القائل -مبالغا بغير شك- إن العرب ظاهرة صوتية"[20]. ونحن إذ نتفق مع أبو المجد في أن هذا القول مبالغ فيه حيث يقوم على التعميم والتنميط غير المبرر علميا، فإن الظاهرة في حاجة إلى بحوث ميدانية متعمقة فعلا دون تعميم وتنميط.

وبالفعل، فقد قام بعض الباحثين العرب مثل أبو النيل بدراسة بعض القيم في بعض المجتمعات العربية، وخلص إلى االقول بأن هناك تباينا في القيم بين العينات التي تنتمي إلى جنسيات مختلفة والتي تمت دراستها في بعض المجتمعات العربية؛ وذلك من خلال دراسات مقارنة بين العينات العربية من جهة، ومن خلال مقارنة العينات العربية مع عينات غير عربية[21] من جهة أخرى.

ومهما كانت جدية هذه الدراسات، فإنها ليست إلا بداية لدراسة القيم في المجتمعات العربية والاسلامية التي تعرف تغيرات اقتصادية واجتماعية عميقة وسريعة مما يستدعي قيام مؤسسات علمية للقيام ببحوث جدية في هذا المجال؛ وذلك للعلاقة الإرتباطية بين القيم والتغير الاجتماعي. فما هي العلاقة بين التغير الاجتماعي وتغير القيم؟

 

- تغير القيم وعلاقته بالتغير الاجتماعي:

إن عدم التكامل بين القيم والسلوك قد يصبح ظاهرة اجتماعية بسبب تغيرات سريعة يمر بها مجتمع ما أو بسبب النفاق الاجتماعي حيث يظهر الأفراد عكس ما يبطنون لمراعاة مشاعر الآخرين أو لتجنب االضغوط النفسية التي قد يتعرضون إليها إن عبروا عن حقيقة القيم التي يؤمنون بها. وقد يكون السبب راجعا أصلا إلى الجهل للعلاقة الموجودة بين الإيمان (الاعتقاد) والفعل كما قد يرجع إلى تغير القيم نفسها بسبب تبني اعتقادات جديدة واعتناق نظام فكري جديد.

ااعتبر بعض الباحثين مثل الخريجي (1983) أن "التغير في القيم أكثر أنواع التغير البنائي أهمية"[22]. وأكد نفس الباحث أن "القيم تؤثر تأثيرا مباشرا على مضمون الأدوار الاجتماعية، والتفاعل الاجتماعي، وهذا يتطلب النظر إليها باعتبارها أكثر أهمية من غيرها من التغيرات"[23]. وأكد نفس الباحث أن "التغير الثقافي أعم وأشمل من التغير الاجتماعي الذي يشير إلى التحولات على النظم الاجتماعية والوظائف التي تضطلع بها"[24].

ولعل الخريجي قد انتهى إلى هذه الخلاصة بناءا على الدراسات السابقة وخاصة الغربية منها التي بينت أن تغير القيم هو الذي أدى إلى التطور الاقتصادي كما أكد ذلك فيبر الذي ستعرض آراؤه بعد قليل. ولاشك، أن تحليل الحضارة الإسلامية يبين للباحث أيضا أن أهم تغير أحدثه الإسلام في نفسية الأفراد وبنية ووظيفة المجتمع كان أساسا تغيرا في القيم الأخلاقية مما كون شخصية جديدة ومجتمعا جديدا ااستطاعا بناء حضارة على أسس وقيم أخلاقية سامية ومتباينة مع ما سبقها من أسس وقيم.

وقد تعرض لموضوع الثقافة والقيم الأخلاقية ودورهما في التغير الاجتماعي عدة باحثين مسلمين وغربيين. ونظرا لأهمية هذا الموضوع في تطور الأمم وتقدم المجتمعات أورد فيما يلي آراء بعض هؤلاء الباحثين والمفكرين في الموضوع مثل ماكس ويبر ومالك بن نبي وأغبورن.

1-دور الأخلاق في البناء الإقتصادي الرأسمالي عند فيبر:

أكد ماكس فيبر (عالم اجتماع ألماني) أن الأخلاق التي جاء بها الإصلاح الديني (الإصلاح البروتستني) االذي قام به رجال الدين المسيحي في أروربا مثل مارتن لوثر (1483-1546) وأتباعه هو الذي أدى إلى نمو وازدهار الراسمالية؛ ذلك لأن هذا الإصلاح كان ثورة احتجاجية ضد الكنيسة االكاثوليكية ومواقفها المتزمتة وقيمها المنمطة ومن ذلك اعتبارها العمل عقابا إلهيا بسبب عصيان آدم للرب في الجنة.

أما البروتستانتية فقد نشرت قيما جديدة إيجابية تمثلت في اعتبار العمل قيمة تحمل في طياتها -إن أدي العمل كما يجب- أحسن الجزاء، وتأكيد قيمة الوقت وأن تضييعه إثم يعاقب الإنسان عليه. وركزت أيضا على الحرية الفردية وقدرته على التحكم في مصيره والتصرف في شؤونه وقيمة الحفاظ على المال واستثماره وعدم تبذيره مما شجع روح المبادرة والمقاولة؛ الشيء الذي أدى إلى إحداث تغيير اجتماعي عميق وتقدم تكنولوجي كبير. فالتطور التكنولوجي تابع للعوامل الثقافية وللعقيدة.

وقد أولى فيبر الدين أهمية أكبر لما له من تأثير قوي على الثقافة والمجتمع؛ فقد أكد أن المعتقدات الدينية هي القوى الدافعة للتغير الاجتماعي، ولا شيء أثر في مجرى التاريخ الإنساني بأسلوب جذري كما فعلت الديانات العالمية الكبرى من حيث النتائج الاجتماعية لتعاليمها[25]. والرأسمالية كنظام اقتصادي قام على الأخلاق البروتستنتية؛ إذ كانت الطوائف الدينية المنتمية إلى المذهب البروتستنتي "تعتقد في أن الرب يبارك ويتفضل بالغنى على من يسره خلال التضحية أو خلال نوع سلوكه. وحولت الطوائف البروتستانتية تلك الفكرة إلى مجال العمل، فكانت أحد مبادىء الرأسمالية المبكرة  -وهو الأمانة خير وسيلة- هذه العلاقة بين المبدأ الديني والمبدأ الرأسمالي كانت توجد عند كل الطوائف، ولكن كصفة متميزة ومستمرة وثابتة، فإنها توجد فقط عند البروتستانت[26]".

وهكذا، فقد أوضح فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" أن القيم الدينية التي اانبعثت من الاصلاح الديني هي التي أدت إلى ظهور الرأسمالية كقوة اقتصادية عالمية وتطورها على أساس أخلاقي ديني.

2

 

- التغير المادي واللامادي للثقافة عند أغبورن:

أغبورن من العلماء الاجتماعيين الأمريكيين الذين درسوا موضوع الثقافة من جوانبها المختلفة. وقد أبدع مفهوما جديدا يسمى الهوة الثقافية أو التخلف الثقافي. تحدث هذه الهوة عندما يقع تغير في جانب من جوانب ثقافة ما ولا يحدث تغير في الجوانب الأخرى المرتبطة بهذه الثقافة؛ ولا تتكيف بسرعة مع التغير الحادث في أحد جوانبها. ومن الأمثلة التي أوردها أغبورن: سرعة السيارات وبناء الطرق السريعة حيث لاحظ أن سرعة السيرات كانت تزداد بوتيرة كبيرة بينما كان يتم تعبيد الطرق وتحسينها ببطء مما أدى إلى وقوع حوادث كثيرة وخطيرة. والمثال الثاني هو العلاقة بين التكنولوجيا الصناعية وتأمين العمال حيث أدى تطور التكنولوجيا السريع وتعقدها إلى ارتفاع حوادث العمل في المصانع. ولكن تأمين العمال ضد حوادث العمل لم يحصل إلا بعد مرور 75 عاما على ظهور التكنولوجيا الحديثة؛ وهذا مثال لتأخر الجانب التشريعي عن الجانب الاقتصادي والتكنولوجي. وبناءا على هذه الأمثلة، فقد افترض أغبورن أن المؤسسات الاجتماعية لا تتقدم بنفس سرعة التقدم التكنولوجي[27].

ويبدو من المثالين المذكورين أن للثقافة –حسب تحديد أغبورن- جانبين: مادي ولا مادي، وأن الجزء المادي من الثقافة كالتكنولوجيا والعمران يتسع و ينمو أسرع من الجزء اللامادي (التنظيم الاجتماعي في العلوم والفنون والدين والأخلاق والعادات..). وهذا الاختلال في التغير يؤدي بالتالي إلى سوء التكيف الذي يصبح أسوأ من سوء التكيف الذي كان قبل حدوث التغير التكنولوجي[28].

3- الثقافة والسلوك والأخلاق في فكر ابن نبي:

أوضح ابن نبي العلاقة بين الثقافة والسلوك بصفة تفصيلية في كتابه "مشكلة الثقافة" حيث أكد أن الثقافة باعتبارها مصدرا للسلوك "ليست مقصورة على صنف اجتماعي معين ولكنها تشمل جميع الطبقات الاجتماعية. هذا السلوك لا يتشكل على مقاعد المدرسة ولكن ضمن مجموع الإطار الاجتماعي والثقافي الذي يحيط بالفرد، ويجب أن ندخل في تحديد ثقافة ما علاوة على المعطى الثقافي والمعطى الجمالي مفهوم المنطق العملي في الوقت ذاته، فالثقافة التي يتم تصورها في صيغة بيداغوجية هي تركيب متآلف للأخلاق والجمال والمنطق العملي والفن الصياغي[29].

إن الثقافة عند ابن نبي مفهوم مركب من مبادىء أساسية وهي: الأخلاق، والجمال والمنطق العملي والصناعة. وإذا كان العنصر الأخلاقي –عند ابن نبي- هو الذي يحدد شكل السلوك الفردي والجماعي؛ فإن العنصر الجمالي هو الذي يحدد أسلوب الحياة في المجتمع[30]. وعليه، فإن الأخلاق كما أشار إلى ذلك ابن نبي هي التركيب التربوي لمختلف عناصر الثقافة. ونظرا لما للأخلاق من أهمية في تركيب مختلف عناصر الثقافة فقد خصص ابن نبي فصلا للتوجيه الأخلاقي في كتابه "مشكلة الثقافة" بين فيه دور الأخلاق من الناحية الاجتماعية حيث تؤدي الأخلاق السامية دور قوة تماسك وتآلف للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية وبناء حضارة. وقد ضرب لذلك مثلا المجتمع الإسلامي المدني الذي وصف في القرآن الكريم بقوله تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم) (الأنفال:63).

وأكد ابن نبي أن الذي ينقص الثقافة في العالم الإسلامي ليس هو الأفكار بل المنطق العملي حيث قال: "إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط"[31]. قد يرد على ابن نبي في هذا الشأن، بأنه لا ينبغي تعميم هذا الحكم على كل العالم الإسلامي والعربي دون اجراء دراسات ميدانية موضوعية في هذا المجال.

ورغم عمق طرح ابن نبي لمشكلة الثقافة في العالم العربي والإسلامي، وتعرضه لمشكلة التنافر بين الجانب الفكري (منطق الفكرة) والجانب السلوكي (منطق العمل والحركة) إلا أنه لم يعمق هذا التنافر أو التناقض ولم يوسعه ليشمل أيضا التنافر بين الجانب الروحي والجانب السلوكي، والتنافر بين الجانب الوجداني والجانب السلوكي؛ أي أن هناك أشخاصا يفكرون ويؤمنون حقا بالثقافة والقيم الإسلامية إلا أن سلوكهم لا يتماشى مع اعتقادهم وإيمانهم بل وحتى مع عواطفهم مما يطرح إشكالية البعد والتباعد بل والتناقض أحيانا بين القيم النظرية والسلوك الذي يمثل الجانب العملي للقيم.

وعمليا، كلما كان البعد بين القيم النظرية والعملية (السلوكية) كبيرا كلما دل ذلك على ضعف الإعتقاد أو الإيمان بهذه القيم أو ضعف العواطف الإيجابية مثل المحبة تجاه هذه القيم أو على وجود عراقيل تحول دون تطبيق هذه القيم أو على كل ذلك (ضعف الاعتقاد، ضعف العاطفة ووجود عراقيل). وقد يصل هذا البعد أوالتباعد بين قطبي المعادلة إلى أقصى حد وهو النفاق. ولعل إيراد أمثلة على هذه القضية من القرآن الكريم والحديث الشريف ومن واقع الحياة اليومية أحسن دليل على هذا الافتراض.

1- أمثلة من القرآن الكريم والحديث الشريف:

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم مثلا فإننا نجد أمثلة على التناقض أو التباعد الموجود بين قيمة الإيمان مثلا والفعل (السلوك). ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون" (الصف:2،3). وقد شرح ابن كثير هذه الآيات بقوله: "إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به"[32].

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم" (الحجرات:14). وقد شرح البيهقي معنى هذا بقوله: "بأن الإيمان العاري عن الاعتقاد ليس بإيمان، وأنه لو كان في قلوبهم إيمان لكانوا مؤمنين لجمعهم بين التصديق بالقلب والقول باللسان. ودلت السنة على مثل ما دل عليه الكتاب"[33]. وأورد البيهقي أيضا في هذا المعنى أن "الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالأركان". وأورد كذلك الحديث الشريف التالي: "إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائكم".

ومما قد يستخلص من الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى:

1- ارتباط حسن الأخلاق بالإيمان وأن حسن الخلق إيمان.

2- سوء الأخلاق نقصان في الإيمان.

3- الإيمان يزيد وينقص.

4- المؤمنون متفاوتون في إيمانهم.

5- الإيمان أعلى درجة من الإسلام.

2- أمثلة من الواقع: 

لو تحدثت مع بعض المثقفين العرب والمسلمين حول أي قيمة من القيم الأخلاقية كالنظافة والنظام واحترام المواعيد والعهود والمواثيق والصدق والأمانة والإخلاص والعدل وغير ذلك من القيم الأساسية والهامة لأعطاك محاضرة  في الموضوع ولربما أكثر من محاضرة. ولكنك إذا لا حظت سلوكه بعيدا عن دائرة المحاضرة لرأيته يتصرف عكس ما قال !

وهكذا، فقد ترى متعلما جامعيا يرمى القاذورات من نافذة سيارته أو أن أولاده يفعلون ذلك دون زجرهم وردعهم مثلا. وقد ترى موظفا محترما، كان قد تحدث لزملائه قبل قليل عن قواعد السلامة في قيادة السيارات، وهو يقود سيارته الجديدة بسرعة فائقة دون احترام للمارة ولقواعد المرور (السياقة). كما قد ترى إماما ألقى دروسا وخطبا لا تحصى في أهمية النظافة والنظام وحث الإسلام عليهما، يترك حذاءه عند مدخل المسجد أو الجامع دون أن يضعها في المكان المخصص للأحذية والنعال؛ فيقلده الآخرون فتتراكم مئات بل أحيانا آلاف الأحذية على مداخل المساجد بينما تبقى رفوف الأحذية فارغة !

وقد ترى طبيبا ينصح أبناءه بعدم التدخين مبينا آثاره الضارة، ولكنه لا يتوانى في التدخين على مرأى أبنائه وزبائنه ! والأمثلة على هذا لا تكاد تعد ولا تحصى، واللبيب بالإشارة يفهم.

وقد تلاحظ أستاذا جامعيا مختصا في علم الإدارة والتنظيم ولكنه لا ينضبط بالمواعيد وبالنظام.

وبالإضافة إلى ظاهرة  "الفصام" الملاحظ بين الايمان بقيم نظرية ما والسلوك، فإن هناك ظاهرة أخطر من ذلك؛ وتتمثل في عدم وضوح العلاقة -في ذهن بعض العرب والمسلمين- بين القيم والسلوك وارتباطهما الوثيق من جهة، وفي عدم فهم القيم كمنظومة تتركب من مجموعة أخلاق وسلوكات متفاعلة ومتكاملة حسب تسلسل هرمي يوضح سلم القيم حسب معياري الأهمية والأولوية.

وإذا رجعنا إلى تراثنا الإسلامي، فإننا نجد بعض العلماء المسلمين مثل البيهقي قد رتبوا شعب الإيمان وفق الحديث الشريف: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"[34].

وعليه، فإن هذه الملاحظات والنصوص قد تشكل قاعدة لاستخلاص القيم الأساس السائدة في المجتمعات العربية والاسلامية، وإخضاعها للفحص والترتيب حسب الأهمية من خلال البحوث الميدانية التي ينبغي أن تجرى في العالم العربي والإسلامي بالاعتماد على عينات ممثلة للمجتمعات الأصلية المراد دراستها.

ودون هذا الاهتمام الجاد على مستوى المؤسسات التربوية والسياسية للعناية بهذا الموضوع من الناحيتين: النظرية والتطبيقية، فإن أزمة الثقافة والقيم لن تحل حلا إبداعيا يؤدي إلى التطور والبناء الحضاري المتكامل. وفي الواقع، فإن أزمة القيم ليست خاصة بالمجتمعات العربية والاسلامية المعاصرة بل هي أزمة تواجه المجتمعات في مختلف مراحل نموها وتطورها، وترتبط بسنن التغير والتطور. ويبدو بوضوح أن هناك علاقة بين أزمة القيم وأزمة المنظومة التربوية: المدرسة والأسرة ووسائل الإعلام المختلفة؛ فما هي العلاقة بين أزمة القيم والتربية؟

- التربية وأزمة القيم: هل أزمة القيم خاصة بالمجتمعات غير المتقدمة ماديا أم أنها تصيب كل المجتمعات في مراحل مختلفة من نموها وتطورها؟

لا يبدو أن أزمة القيم مرتبطة بالتخلف الإقتصادي بقدر ما هي مرتبطة بالتخلف الثقافي. وعليه، فأزمة القيم قد تكون أزمة عامة تشمل جميع أنواع القيم كما قد تكون أزمة خاصة بنوع من أنواع القيم؛ كأن تكون الأزمة مرتبطة بالقيم الروحية أو القيم السياسية أو القيم الجمالية أو القيم النظرية حسب تصنيف ألبورت مثلا.

وكما طرح بعض الباحثين والمفكرين المسلمين مثل ابن نبي أزمة الثقافة والقيم في العالم العربي والإسلامي، فقد طرحت أزمة القيم في العالم الغربي أيضا. ومن أهم المفكرين المعاصرين الذين طرحوا أزمة القيم في العالم الغربي، الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي[35] حيث طرح في بداية الثمانينيات أزمة االقيم في الغرب وارتباطها بأزمة التربية؛ فقد أكد غارودي في مقال له تحت عنوان "التربية وأزمة االقيم"[36] بأن أزمة التربية ضاربة الجذور في أزمة القيم. وتعتبر هذه المشكلة في رأيه المشكلة الأساس للتربية في الغرب. والحل لهذه الأزمة، كما أكد غارودي ذلك، هو توضيح أهداف المدرسة والجامعة، ومعنى رسالتها، ومفهوم الإنسان ومستقبل الإنسان في إطار هذه الرسالة.

وقد ألح غارودي في مقالته أن كل نظام تربوي هو في وقت واحد صورة من مجتمع ومشروع له. وعليه، فالتربية الشاملة المبدعة هي التي تحل أزمة التربية وأزمة القيم في نفس الوقت. وقد قال بهذا الصدد: "وأخص ما ينبغي أن تختص به تربية تليق بعصرنا هو أن تجعل الإنسان يعي أن مهمته كإنسان أن يشارك في الخلق المستمر للعالم وفي التوليد الإبداعي المطلق الجديد. وأن فعله لا يكون إنسانيا حقا ولا يمكنه من بلوغ ذروة الحياة إلا إذا اجتمع الخلق الإبداعي والعمل السياسي والحب والإيمان لديه في فعل واحد" (ص 83).

وعلاوة على العلاقة الهامة التي أقامها غارودي بين التربية والقيم، وتأكيده أن حل أزمة التربية هو حل لأزمة القيم، فإن غارودي قد طرح فكرة هامة يركز عليها جل رجالات الفكر والثقافة وتتمثل في ضرورة بلورة النظام التربوي للنظام الاجتماعي المراد بناؤه من جهة، وبناء هذا النظام وفق رسالة أو رؤية واضحة بحيث يكون فيها معنى هذه الرسالة ومكانة الإنسان ودوره في إطار هذه الرسالة واضحا جدا.

ولا يخفى أن وضوح الرؤية هذه ينبغي أن يكون على مختلف المستويات التي يتكون منها مجتمع ما؛ أي المستوى الفردي، المستوى الجماعي، المستوى التنظيمي والمستوى المجتمعي. ومن أهم خصائص هذا الوضوح التوافق والانسجام الذي ينبغي أن يكون بين الرؤى والغايات السامية للرسالة وللأهداف التي يحملها ويرسمها الأفراد لأنفسهم والجماعات والمجتمعات لنفسها بهدف النهوض وبناء الحضارة. 

ولاشك، أن تحقيق هذا الوضوح وهذا الانسجام مما يحقق عمليا الانسجام بين القيم الأخلاقية والثقافة كسلوك هادف وبناء. ولايعني هذا أبدا عدم قبول التثاقف وتعايش الثقافات الفرعية إلى جانب الثقافة الأساسية بل إن التعدد الثقافي واقع لا يمكن إنكاره ولا تجاوزه مما يطرح ضرورة فهم أسس التعدد الثقافي وما يرتبط بذلك من نسبية القيم وتباينها ليس على المستوى النظري فحسب بل وعلى المستوى التطبيقي أيضا.

ومهما كان التعدد والتباين على مستوى الثقافة والقيم، فإن هناك قيما مشتركة بين أبناء المجتمع الواحد بل وبين بني آدم كافة تصلح لتشكل قواعد للعمل المشترك وللتعايش وفق قوانين حضارية يسودها الحوار البناء والنقاش المثمر والاحترام المتبادل للاختلافات الثقافية ولتباين القيم. بل إن هذه الاختلافات والتباينات قد تصبح نقاط قوة بدلا من نقاط ضعف إذا تم النظر إليها من منظور تكاملي؛ وتمت إدارتها إدارة حكيمة قائمة على الإبداع بهدف تحقيق غايات وأهداف مشتركة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خلاصة

بينت هذه الدراسة الأولية أن هناك علاقة وثيقة بين الثقافة كنظام سلوكي شامل والقيم الأخلاقية كنظام معياري موجه للنظام السلوكي سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو المجتمعي.

وبينت الدراسة من خلال عرض أفكار فيبر وابن نبي وأغبورن أهمية الثقافة في البناء الحضاري، والدور 

الهام الذي تؤديه الأخلاق في االبناء الاجتماعي والاقتصادي بل والحضاري بصفة عامة.

و طرحت الدراسة بجدية وإلحاح مشكلة التباين والتناقض الملاحظين بين القيم النظرية والقيم العملية، وضحالة تفعيل بعض القيم الأساسية في المجتمعات العربية والاسلامية مما يتطلب إجراء بحوث ميدانية موضوعية لتحديد أسباب هذه الظاهرة، واقتراح سبل تصحيحها بأساليب الإرشاد الفردي والاجتماعي، وبتجديد المنظومة التربوية لتحمل ثقافة وقيما قابلة للتطبيق بفعالية في المجتمع على مختلف المستويات: الفردية، التنظيمية والمجتمعية.

لقد أكد عدة باحثين ظاهرة التخلف الثقافي أو الهوة الثقافية التي تحدث بين الجوانب المادية والجوانب االلامادية للثقافة مما يؤدي  إلى أزمة قيم وإلى تأزم النظام التربوي ليس على مستوى المدرسة فقط بل على مستوى كل االمؤسسات التربوية (الأسرة، المسجد، الخ..)، والاعلامية وما يرتبط بها من مؤسسات. و هذا ما يؤدي بنا إلى التأكيد على أن التغير الثقافي أشمل وأعمق من التغير الاجتماعي؛ أي التغير المطلوب في المجتمع ليس في بنياته التقليدية فحسب بل تغيرا إيجابيا في وظائف الأسرة والمدرسة وباقي المؤسسات الفاعلة والفعالة في المجتمع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع العربية

 

أبو المجد، أحمد كمال: القيم والتحولات الاجتماعية المعاصرة. إعداد مكتب المتابعة لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بالدول العربية الخليجية، ط1، المنامة: 1990.

 

إبراهيم، أحمد عبد الرحمن: الفضائل الخلقية في الإسلام، ط1، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض: 1402هج-1982م.

ابن كثير، اسماعيل القرشي:  تفسير القرآن العظيم، دار طيبة، الرياض: 1999م.   

 

ابن نبي، مالك: شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق: 1996.

 

ابن نبي، مالك: مشكلة الثقافة، ط4، دار الفكر، دمشق: 1420هج- 2000م.

 

حجازي، محمد فؤاد: النظريات الاجتماعية، ط1، مكتبة وهبة، القاهرة:1980.

 

الخريجي، عبد الله: التغير الاجتماعي والثقافي، ط1، جدة: رامتان، 1403هج-1983م.

 

عشوي، مصطفى: التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد92، 1406هج-1986م، ص ص 161-168.

 

غارودي روجي: التربية وأزمة القيم، تعريب: توفيق بكار، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد78، 1404هج-1983م.

 

فراج، عثمان: الثقافة وعملية التنشئة الاجتماعية في الوطن العربي، أعمال الملتقى الدولي حول الثقافة والتسيير بالجزائر، 28-30 نوفمبر 1992، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر: بدون تاريخ.

 

قميحة، جابر: المدخل إلى القيم الإسلامية، دار الكتب الإسلامية: القاهرة: 1404هج-1984م.

 

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: الخطة الشاملة للثقافة العربية، دار السلاسل، الكويت:1986.

 

المجلة العربية للثقافة: إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،  السنة 19، عدد39، جمادى الثانية 1421 هج- سبتمبر 2000، ص7.

 

ملاحظة: اعتمدت في تخريج الأحاديث على الموسوعة الماسية للحديث وعلومه، عبد اللطيف للمعلومات، الرياض، المملكة العربية السعودية.

 

 

References in English

 

 

Abou-el-Neil, Mahmoud: Cross-Cultural Research, In “Psychology in the Arab Countries”. Edited by: Ahmed A. R. & Gielen, U. P., Menoufia University Press, 1988.. 

 

Hofstede, Grett: Cultures, Consequences of International Differences in Work Related Values, Beverly Hills, California: 1980.

 

Gibson, Ivancevich & Donnely: Organizations, 10th ed, McGraw-Hill Co., Boston: 2000.

 

Allport, Vernon & Lindzey: A Study of Values, Houghton Miffin Company: 1960.

 

Rokeach, Milton: The Nature of Human Values, Free Press, New York:1973.

 

Weber, Max: Protestant Ethics and the Spirit of Capitalism. Allenad Unwin: 1904.

 

 



[1] نشر الموضوع في مجلة الطفولة العربية بالكويت في العددالعاشر، مارس 2002

[2] المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: الخطة الشاملة للثقافة العربية، دار السلاسل، الكويت:1986.

[3] المجلة العربية للثقافة: إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،  السنة 19، عدد39، جمادى الثانية 1421 هج- سبتمبر 2000، ص7.

[4] Hofstede Grett: Cultures, Consequences of International Differences in Work Related Values, Beverly Hills, California: 1980.

[5] عثمان فراج: الثقافة وعملية التنشئة الاجتماعية في الوطن العربي، أعمال الملتقى الدولي حول الثقافة والتسيير بالجزائر، 28-30 نوفمبر 1992، ديوان المطبوعات الجامعية: الجزائر، بدون تاريخ.  

[6] المرجع السابق، ص35.

[7] ابن نبي: شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق: 1996، ص83.

2 المرجع السابق، ص83.

[9] المرجع السابق، ص82.

[10] المرجع السابق، ص85.

[11] Gibson, Ivancevich & Donnely: Organizations, 10th. Edi., McGraw-Hill Co., 2000,  P. 105.

[12] Allport, Vernon & Lindzey: A Study of Values, Houghton Miffin Company: 1960.

[13] Rokeach, Milton: The Nature of Human Values, Free Press, New York:1973.

[14] قميحة، جابر: المدخل إلى القيم الإسلامية، دار الكتب الإسلامية، القاهرة: 1404هج-1984م. ص41.

[15] المرجع السابق، ص41.

[16] الرمجع السابق، ص42.

[17] إبراهيم، أحمد عبد الرحمن: الفضائل الخلقية في الإسلام، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض:1402هج-  1982م. ص ص313-314.

[18] المرجع السابق، ص415.

[19] أبو المجد، أحمد كمال: القيم والتحولات الاجتماعية المعاصرة. إعداد مكتب المتابعة لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بالدول العربية الخليجية، ط1، المنامة، 1990. ص60.

[20] المرجع السابق، ص61.

[21] Abou-el-Neil, Mahmoud: Cross-Cultural Research, In “Psychology in the Arab Countries”, edited by: Ahmed A. R. & Gielen, U. P.< Menoufia University Press, 1988. P.541. 

[22] الخريجي، عبد الله: التغير الاجتماعي والثقافي، ط1، جدة: رامتان، 1403هج-1983م. ص 140.

 

[23] المرجع السابق، ص141.

[24] المرجع السابق، ص 249.

[25] حجازي، محمد فؤاد: النظريات الاجتماعية، ط1، مكتبة وهبة، القاهرة:1980، ص173.

[26] المرجع السابق، ص185.

[27] عشوي، مصطفى: التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد92، 1406هج-1986م، ص ص 161-168.

[28] لمزيد من التفاصيل: انظر: حجازي محمد فؤاد: النظريات الاجتماعية، ص ص 229-233.

[29] المرجع السابق، ص144.

[30] ابن نبي: مشكلة الثقافة، ص66.

[31] المرجع السابق، ص ص87-88.

[32] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، جزء4، ص279.

[33] البيهقي: شعب الإيمان، ص38.

[34] رواه مسلم في صحيحه، رقم الحديث 152، جزء2، كتاب افيمان، ص195. وورد أيضا في سنن النسائي وصحبح ابن حبان وغيرهما.

[35] أصبح اسمه رجاء غارودي بعد إسلامه. كتب المقال قبل إعلان إسلامه.

[36] غارودي روجي: التربية وازمة القيم، تعريب: توفيق بكار، مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة بالجزائر، عدد78، 1404هج-1983م، ص ص73-83.