اليورو عملاق اقتصادي
جديد
بقلم : الدكتور /
أسامة احمد عثمان
إن أحد اوجه الصعوبات
والمتعة التي تصادف الدارس لعلم الاقتصاد هو أنه يدرس تجارب إنسانية يصعب التحكم
في ظروفها، و ذلك بعكس ما يحدث في التجارب المعملية في العلوم الطبيعية . كما أن
هذه التجارب الإنسانية نادراً ما تتكرر . ولعل اندماج أحد عشر دولة أوروبية في
وحدة نقدية واحدة وبروز اليورو كعملة موحدة لهذه الدول مع إطلالة العام الميلادي
الجديد، هو أحد هذه التجارب التاريخية النادرة . ترى ما الذي يعنيه هذا الحدث وما
هي الآثار التي يتوقع أن تترتب عليه ؟
إن توحيد العملات كلها في عملة واحدة بالإضافة إلى
القيود الأخرى على حجم الدين العام وحجم العجز في ميزانية الدول الأعضاء يعني
حرمان هذه الحكومات من أي سياسات تقوم على تنشيط الطلب . فمثلا لن يكون بالإمكان
استخدام سعر الصرف للعملات كأحد الأدوات لمعالجة الاختلال في ميزان المدفوعات لأي
دولة عضو . وهذا يعني أن السياسة الاقتصادية تقوم أساسا على معالجة جانب العرض . و
المشكلة في هذه السياسات أنها لا تؤدي ثمارها إلا ببطء شديد ، كما أن بعض الفوارق الحقيقية بين هذه
الدول يمكن أن تبقى وتؤثر سلبيا على درجة الاندماج بين هذه الدول . فمثلا ، تمثل
اللغات الكثيرة المختلفة أحد العوائق الرئيسة أمام انسياب العمالة من بلد إلى آخر
. فلو أراد شخص إسباني العمل في فنلندا مثلا ، ترى ما هي اللغة التي يتوجب عليه
استعمالها في عمله ؟ هل هي لغة أحد البلدين أم لغة بلد ثالث كالإنجليزية ؟ وكم من
الناس لديه القدرة والاستعداد ( وقتا وصبرا وتمويلا ) لتعلم لغة أخرى ؟
لقد أدت سياسات التقشف المالي التي اتبعتها حكومات الاتحاد النقدي
الأوروبي إلى انخفاض معدل سعر الفائدة في هذه الدول وهو ما ينعكس إيجابيا على
إقبال القطاع الخاص على الاستثمار . ولكن
اقتصادات هذه الدول دفعت و لا تزال ثمنا باهظا لهذا التقشف متمثلا في معدل بطالة مرتفع
يزيد على عشره في المائة خلال عام 1998 .لا بل لقد زاد ذلك المعدل في بعض الدول
على ذلك بكثير . فقد بلغ في إسبانيا مثلا حوالي 18,8 % وفي فرنسا حوالي 11,9 % وفي
ألمانيا ، عملاق أوروبا الاقتصادي ، 9,6 % . لقد أناخت مشكلة البطلة بكلكلها على
أوروبا فترة طويلة من الزمن بحيث طالبت بعض الدول ،كفرنسا ، بأخذ الجانب الاجتماعي
في الحسبان عند رسم السياسات الاقتصادية . ولكن لا يبدو أن هناك إجماعا على ذلك.
فقد قال ويليم دويزنبيرغ رئيس البنك المركزي الأوروبي في خطاب الافتتاح لنشاط
البنك قبل بضعة شهور " إن السياسة النقدية
ليست هي السبب ولا هي العلاج لمشكلة البطالة " كما أردف " أن ثبات مستوى الأسعار والتضخم هو
المهمة الأولى ، في نظره ، للبنك المركزي الأوروبي ." وفي مقابلة مع مجلة
نيوزويك ( نوفمبر 1998 –
فبراير 1999 ) قال " إن معدل التضخم المقبول سيكون اقل من اثنين في المائة في
المدى المتوسط وسوف يتم تحديد نسبة شبه
ثابتة لنمو الكتلة النقدية " . و هذا يعني
أن إدارة البنك المركزي الأوروبي لا تؤمن باستخدام السياسة النقدية لتنشيط
الطلب العام عند الحاجة. و بذلك تكون الدول الأوروبية قد أضافت قيودا اختيارية
جديدة على أدوات سياساتها الاقتصادية بالإضافة إلى القيود السابقة.
لقد تم تثبيت عملات الدول
الأوروبية الأحد عشر تجاه بعضها البعض وذلك بتثبيت معدل صرف كل منها تجاه اليورو
، تمهيدا لإلغاء هذه العملات نهائيا عام
2002 . وليس من الواضح ما هي سياسات سعر صرف اليورو تجاه العملات الرئيسة الأخرى
كالدولار الأمريكي و الين الياباني في المستقبل . بمعنى هل سيحافظ البنك المركزي
الأوروبي على سعر ثابت لليورو دائما تجاه هذه العملات ضمن حدود ضيقة ، أم أن البنك سيلجأ إلى تغيير سعر صرف اليورو
تجاه العملات الأخرى كلما مال ميزان مدفوعات دول المنظومة النقدية الأوروبية إلى
الفائض أو العجز ؟ أغلب الظن أن هذا الثبات لن يدوم طويلا أو انه لن يكون دائما،
على الأقل . إن أحد أهم عناصر السياسة النقدية الأوروبية الجديدة ليس مجرد إلغاء
العملات الفردية للدول الأعضاء و إحلالها بعملة واحدة ولكن أهم هذه العناصر هو
استقلالية إدارة البنك المركزي الأوروبي في رسم السياسة النقدية استقلالا تاما عن
حكومات الدول الأعضاء .ولكن إذا اشتدت حمى المنافسة الدولية بين أوروبا واليابان
وأمريكا ومال ميزان المدفوعات لأحدها نحو العجز واتجهت معدلات البطالة نحو
الارتفاع، فان احتمالات صمود البنك أمام ضغوط الدول الأعضاء سيضعف . كما أن
احتمالات المواجهة باتباع سياسات صرف للعملات تؤثر على الآخرين سوف تتزايد . و هذا
يعني أن بروز كيان جديد كبير وقوي وان كان
لا يخلو من فوائد إلا انه لا يخلو من
مخاطر أيضا . و إذا كانت اليابان ، وهي أصغر المجموعات الاقتصادية الثلاثة حجما ،
ستشعر بأضرار كبيرة من بروز العملاق الاقتصادي الجديد فأغلب الظن
أنها ستتجه شرقا نحو العملاق الصيني مما سيخلق نوعا جديدا من الاستقطاب الاقتصادي
والسياسي في العلاقات الدولية.
لا بل إن هذه الوحدة النقدية تعني أن أعضاءها سوف تكون لديهم خيارات اقل
نحو عزل أنفسهم عن أية تطورات سلبية في الدول الأعضاء الأخرى. فحدوث أية اضطرابات
سياسية أو اقتصادية في أية دول يمكن أن
تؤثر الآن على الدول الأخرى بدرجة اكثر من ذي قبل ، نظرا لان هناك جهة مركزية
لاتخاذ القرارات ، تنظر إلى مصلحة
المجموعة ككل وليس إلى مصلحة دولة بذاتها . وعندها ستخضع هذه الوحدة إلى امتحان
عسير أمام تقلبات التطورات الإقليمية في الدول الأعضاء وخاصة إذا كانت هذه
التطورات ناتجة عن السياسات الاقتصادية الموحدة.
لقد كان النجاح الاقتصادي الذي حققته دول المجموعة الأوروبية نتيجة
للخطوات الوحدوية الاقتصادية في السنوات السابقة دافعا لها لاتخاذ المزيد من هذه
الخطوات ، دفعا لهذه الوحدة إلى درجة الاندماج الاقتصادي الكامل ما أمكن . ولكن
هناك مخاطر من أن أوروبا قد لا تصادف درجة من النجاح في المستقبل اكثر مما صادفت
في الماضي ،أو أن الآثار السلبية في
المستقبل يمكن أن تفوق الآثار الإيجابية . وهذا يشبه تغذية بقرة حلوب بالمزيد من
الغذاء طمعاً في المزيد من الحليب . مما يمكن أن يأتي بآثار عكسية . ولذلك فان
معدل النمو الاقتصادي و معدل البطالة سيكونان أهم اختبارين لمدى جدوى هذه الوحدة
وإمكانيات صمودها أمام تقلبات السياسات المحلية في الدول الأعضاء.
ولسائل أن يسأل عن الآثار المتوقعة للوحدة الاقتصادية الأوروبية على دول
العالمين العربي والإسلامي . و الجواب هو أن نمو اقتصاد أوروبا سينعكس إيجابيا
ولاشك ، ليس على دول أوروبا وحسب ، ولكن على بقية دول العالم . إلا أن هذا الأثر
سيكون مختلفا باختلاف درجة تقدم هذه الدول . ولما كانت تجارة الدول المتقدمة هي
فيما بينها على الأكثر ، فانه ليس من المتوقع أن يكون لهذه الوحدة أثر كبير على دول العالم الثالث . إذ لابد لهذه
الدول من أن تصلح من شؤونها الداخلية أولا
، حتى تكون اكثر قدرة على الاستفادة من التطورات الحاصلة في العالم .