بسم الله الرحمن الرحيم
تركيا .. عملاق مقيد
بقلم /د.أسامه
أحمد عثمان *
المتابع
للأخبار العالمية يسمع ويرى كثيرا من الأعاجيب . ولعل من أعجبها المعركة السياسية
التي تدور في تركيا بين نائبه مسلمة محجبة واحدة ، والقوى السياسية الممسكة بزمام
الأمور في تركيا الشقيقة . لقد رأت تلك
القوى في حجاب تلك النائبة تحديا كبيرا لنظامها , لا بل لقد زعمت أن حجاب تلك النائبة
يمثل دعوة للكراهية والتفرقة والعنف !!! وأحسب أن هذه المعركة تمثل مصداقا لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا .
قالوا : أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون .
كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف).ويبدو وكأن القوى المسيطرة على
النظام السياسي التركي لم تجد ما تشغل به نفسها ومواطنيها من مشاكل إلا غطاء رأس
نائبة في البرلمان .
لقد قدر لي أن أحضر المؤتمر
السنوي لجمعية التمويل الدولي لهذا العام والذي عقد في اسطنبول في شهر إبريل
الماضي ورأيت وسمعت عن أحوال تركيا الاقتصادية ما أثار عجبي وحزني . فقد أبلغني
بعض الاقتصاديين الأتراك أن معدل التضخم في تركيا خلال العشرين السنة الماضية كان
يتراوح ما بين خمسين إلى سبعين في المائة . وأن سعر الفائدة على السندات الحكومية
هو مائة في المائة . وهذا يعني أن سعر الفائدة الحقيقي بعد حسم معدل التضخم هو في
المتوسط أربعون في المائة . وهو سعر فائدة فاحش جدا، قل نظيره في عالم اليوم .
والأثر السلبي لسعر الفائدة هذا على
الاستثمار أمر لا يخفى، فأي استثمار لا يأتي بمعدل ربح يبلغ الأربعين في المائة
فأكثر هو أمر غير مجد اقتصاديا . فالاستثمار في السندات الحكومية أسهل، وهو في
ظاهره مجز ماديا . ونتيجة لسعر الفائدة الباهظ
فقد قبضت الشركات أيديها عن أن تقترض من البنوك واكتفت بتمويل استثماراتها من أرباحها المستبقاة . كما
أن استثمارات القطاع الحكومي إن حصلت ، وهي كثيرا ما لا تحصل ،تطغى على حساب استثمارات
القطاع الخاص وقدرته على خلق وظائف ودخول جديدة . والحق أن مظاهر الفقر ظاهرة
للعيان في مدينة كبيرة كاسطنبول ، ناهيك عن الأرياف . إذ يسكن اسطنبول اثنا عشر مليونا من الناس (أي حوالي خمس مجموع
سكان تركيا) وهناك الكثير من الأحياء المكتظة والملتصقة المباني .
ولكن عوائق الاستثمار في
تركيا لا تنحصر في سعر الفائدة المرتفع جدا . إذ أن معدل التضخم العالي جدا يمثل
عامل مخاطرة آخر. فالمستثمر لا يدري بكم سيبيع أو بكم سيشتري في المستقبل . وبسبب
من هذا التضخم فإن سعر صرف الليرة التركية يعاني انحدارا مريعا كل يوم . ففي اليوم
الذي وصلت فيه اسطنبول كان سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار هو 372 ألف ليرة
. وفي يوم رحيلي ،بعد خمسة أيام ، كان سعر الصرف 387 ألف ليرة. أي أن الليرة
التركية تفقد كل يوم حوالي ربع في المائة من قيمتها تجاه العملات الأخرى . ومخاطرة
سعر الصرف المتدهور كل يوم تضيف عائقا آخر ضد الاستثمار . ولكن لولا هذا الانخفاض
المستمر في سعر الليرة لما استطاعت تركيا
أن تصدر شيئا إلى العالم . فتخفيض سعر العملة أثر ضروري ومباشر لارتفاع معدل
الأسعار . وتخوض الحكومة التركية منذ أكثر من عشر سنوات حربا داخلية ضروسا ضد
أكرادها، بالإضافة إلى برنامج تسلح كبير جدا . ولتركيا ثاني أكبر جيش في حلف
الأطلسي بعد الجيش الأمريكي . وهذا يعني أن جزءا كبيرا من الإنفاق والاقتراض
الحكوميين لا يؤديان إلى استثمار حقيقي لإنتاج السلع والخدمات للمواطنين . و
بالتالي فإن اضطراب الأوضاع السياسية وسرعة تبدل الحكومات يمثلان الخطر السياسي
على الاستثمار .
ومجموع هذه العوامل والأخطار
يغذي بعضه بعضا . فمثلا نتيجة لارتفاع معدل التضخم ،والتدهور المستمر لسعر صرف
الليرة فإن عقود أجور العمال تخضع للمراجعة ، في اتجاه أعلى طبعا، مرة كل ثلاثة
أشهر . وهكذا كل عقود البيع والشراء والإيجار التي تمتد عبر فترة من الزمن . وربط
العقود بمؤشر التضخم يؤدي إلى ترسيخ معدل التضخم ويجعل الدواء داء في حد ذاته .
وقد حدثني بعض الاقتصاديين الأتراك أن سوق بيع وإعادة شراء السندات (Repurchase
Agreements) في
تركيا هو ثاني أنشط سوق في العالم بعد البرازيل . وهذه العقود تنص على أن يقوم
البنك المركزي بشراء السندات من حامليها على أن يتعهدوا بإعادة شراءها بعد وقت
قصير لا يزيد عن أسبوع واحد . والسبب في النشاط الكبير لهذه السوق هو أن قيمة
النقود تتعرض للتآكل السريع بفعل التضخم . ولذلك فلابد من استثمارها في أوراق تعوض
عن ذلك الفاقد . ولكن لما كان البائع ، وخاصة من الأفراد العاديين، محتاجا إلى
السيولة لمقابلة مصاريفه اليومية فإنه لابد له من تسييل وإعادة بيع هذه السندات .
وبالرغم بأن الأمر في ظاهره يحمي المستثمر من التضخم ، إلا أن انصراف الاستثمارات
إلى المضاربة في سوق الأوراق المالية له أثر سلبي لا يخفى على الاستثمار الحقيقي .
كما أن تراكم الدين العام على الحكومة سرعان ما يؤدي بها إلى طبع المزيد من النقود
لتسديد ديونها ، وهذا يؤدي إلى ترسيخ، إن لم يكن زيادة معدل التضخم . ولذلك فإن
النقود مهما زادت في يد الفرد فهي ستظل تطارد كمية أقل من السلع والخدمات . وتقدر
إحصائيات البنك الدولي معدل النمو الاقتصادي التركي خلال الفترة 1985 – 1994
بحوالي 1,4% .
لقد وجدت تركيا بلدا جميلا
وشعبها مضياف كريم وذو عاطفة قوية . وهي جديرة بأن يقضي المرء فيها إجازته . والصيف على الأبواب. وسيجد
الزائر لها آثارا تدل على تاريخ عظيم ومجد باذخ وتراث تليد . لقد دق العثمانيون
أبواب فينا مرتين ، ولكن تركيا اليوم واقفة بباب أوروبا لا تريم . فلا هي ولجت بيت
الغرب ولا هي عادت إلى عرين الشرق . ترى كم كان تاريخ أوروبا والعالم سيتغيران لو
أن فينا لم تتمنع على طالبيها ؟ وكم سيتغير تاريخ تركيا ، وربما العالم ، لو عاد
ذلك العملاق المقيد إلى إسلامه ؟
*د. أسامه أحمد عثمان
أستاذ مشارك قسم المالية والإقتصاد
osama@ kfupm.edu.sa