بسم الله الرحمن الرحيم
حرب أسعار الألبان الثالثة
بقلم الدكتور: أسامه أحمد عثمان *
اشتعلت
حرب الأسعار في سوق الألبان السعودية للمرة الثالثة و انهارت الاتفاقية التي وقعها
المنتجون برعاية وزارة الزراعة بعد سنة من توقيعها و قبل سنة من انتهائها .و
قد توالت التخفيضات من جميع المنتجين في محاولة للمحافظة على حصصهم في السوق. و
رغم شعور الجميع بالأزمة منذ زمن طويل و تكرار الاجتماعات بعد الاجتماعات
فإن الجميع فيما يبدو لا يبحثون إلا موضوعا واحدا دون غيره وهو كيفية المحافظة على
الأسعار من الانهيار. و لكن ما يرشح من هذه الاجتماعات ينبئ، كما هي العادة ،أن
المهتمين بالموضوع غالبا ما يحاولون وصف الدواء قبل تشخيص طبيعة الداء .و هذا
محال. و يبدو لي أن أزمة صناعة الألبان قد ظهرت لتستمر لفترة طويلة قادمة وأنه ليس
هناك الكثير مما يمكن عمله بصورة مباشرة على المدى المنظور لرفع الأسعار ،و ذلك
للأسباب التالية:
أولا:
أن الطاقة الإنتاجية لصناعة الألبان قد نمت نموا سريعا يفوق بكثير معدل نمو الطلب
.و هذا
يعني
أن فائض العرض سيستمر لفترة طويلة قادمة. و نظرا لشح المعلومات عن هذه الصناعة و
عن كثير من قطاعاتنا الاقتصادية فإني مضطر للقيام بمقارنات تقريبية بناء على
معلومات توفرت لي من مصادر متعددة. فقد قدرت خطة التنمية السابعة للدولة أن من بين
منجزات الخطة السادسة (1994-1999) هو نمو صناعة الألبان الطازجة بنسبة 36,8% خلال
سنوات الخطة أي بمعدل سنوي يبلغ7,36%.و تقدر الإحصائيات نمو الإنتاج من 633 ألف طن
عام 1994 إلى 866 ألف طن عام 1999. وأغلب الظن أن هذه الأرقام تعكس النمو في
الطاقة الإنتاجية و ليس الإنتاج الفعلي. إذ تقدر بعض المصادر الأخرى الإنتاج
الفعلي لعام 1995 بحوالي 422 ألف طن (Commerce, March
1997 Saudi) كما تقدر مصادر أخرى إنتاج عام 2000 بحوالي 650 ألف طن. و هذا
يعني أن الإنتاج الفعلي خلال الفترة 1995-2000 قد نما بنسبة 54,53% أي بمعدل
سنوي يبلغ 10,81%. بينما قدرت خطة التنمية السادسة المعدل السنوي لنمو الطلب على
الألبان بحوالي 4% أي أن معدل نمو العرض الفعلي قد فاق معدل نمو الطلب بأكثر من
الضعف، كما أن نمو الطاقة الإنتاجية يقترب من ضعف معدل نمو الطلب .
ثانيا:
كثرة عدد المنتجين (حوالي 24 شركة) مع وجود تركيز شديد للطاقة الإنتاجية لدى أكبر
اثنين من المنتجين هما الصافي و المراعي. إذ تسيطر هاتين الشركتان فيما بينهما على
حوالي 60% من حجم الإنتاج الفعلي . وإذا أضفنا إليهما ثالث و رابع المنتجين
مع فارق كبير، و هما شركتا نادك و ندى تصبح نسبة تركيز الصناعة حوالي 78% لدى أكبر
أربعة منتجين. وهذا وضع يشير إلى درجة احتكار عالية جدا . و صناعة الألبان
السعودية تشكل حالة نموذجية لما يدرس في علم الإقتصاد و ما يسمى باحتكار
القلة ( (oligopoly التي يقودها منتج واحد أو اثنان على الأكثر. و تبلغ
المنافسة في هذا السوق بين كبار المنتجين إلى درجة أنها تسمى منافسة حز الحلاقيم (
Throat Competition
Cut).
ويبدو
أن كبار منتجي الألبان قد التزموا حلوق بعضهم بعضا ليسفك كل منهم حليب صاحبه
. و هنا يبرز تساؤل حول الأسباب التي أدت إلى هذا النمو السريع في عدد
المنتجين و طاقتهم الإنتاجية. و تعود جذور المشكلة إلى عدة سنوات حينما قرر كبار
المنتجين التوقف عن شراء الحليب الخام من صغار المنتجين و الاستقلال
بإمداداتهم الذاتية من الحليب . مما دفع صغار المنتجين إلى تطوير مزارعهم
إلى مصانع لإنتاج الألبان.و لقد ساعد على ذلك دعم سخي من الدولة ممثلة في كل من
وزارة الزراعة و صندوق التنمية الصناعية السعودي .ولكن هذا الدعم لا يمثل إلا رأس
جبل الجليد كما يقولون .إذ تقدر بعض المصادر أن إنتاج كل لتر من الألبان يتطلب في
المتوسط ألف لتر من الماء !( Saudi Commerce , March 1997).و هذا يشمل بالطبع كافة مراحل الصناعة من زراعة
الأعلاف و سقاية الأبقار و تشغيل المصانع . وإذا صحت هذه التقديرات فإن هذا
يعني أن الأجيال القادمة تدفع الآن ثمنا باهظا لنا يستهلكه جيلنا الحالي من
الألبان .إذ من المعروف أن موارد البلاد من المياه شحيحة جدا و أنها غير متجددة .
وقد قامت الحكومة ببعض الإجراءات للسيطرة على هذا الوضع بتقليل دعم زراعة
القمح و تخفيض المساحات المزروعة بالأعلاف و منع تصديرها بالإضافة إلى تركيب
عدادات لقياس ما يستهلك من مياه . على أن هذه الإجراءات قد لا تكون كافية. إن
الوضع الحالي يعني أن القطاع الزراعي لا يدفع الثمن الحقيقي لما يستهلكه من مياه.
و هذا بحد ذاته دعم هائل غير مباشر . وربما يتوجب على وزارة الزراعة فرض
ضريبة على كميات المياه المستخرجة ( Severance Tax ) وهذا اقتراح لن يسر المنتجين و خاصة في صناعة تواجه
انخفاضا متتابعا في إيراداتها. كما أنه يزيد الأمر صعوبة بالنسبة لصغار المنتجين
قياسا إلى كبار هم.و لكننا لو تأملنا الأمر قليلا لوجدنا أن ضريبة متواضعة
على استخراج الماء يمكن أن تؤدي في النهاية إلى وفر كبير من المياه و ذلك
لمصلحة الأجيال القادمة .هذا من جهة. و من جهة أخرى فإن هذه الضريبة يمكن أن تقلل
من حجم إنتاج الألبان للصناعة ككل وتؤدي بالتالي إلى تقليل الفائض من
الإنتاج وإيقاف حرب الأسعار عند حد معين و ذلك دون أن تقوم الحكومة بجهد
إضافي لتحقيق التوازن في السوق . و من أجل توفير حماية نسبية لصغار المنتجين
يمكن أن تكون هذه الضريبة تصاعدية ، بحيث تتناسب مع حجم الاستخراج الفعلي
للمياه .
ثالثا:
طبيعة الألبان كسلعة غذائية أساسية تعني أن الطلب عليها غير مرن. ولذلك فإن تخفيض
الأسعار لن يؤدي إلى زيادة محسوسة في الطلب على المدى القصير .و بالتالي فإن معظم
المنتجين إن لم يكونوا كلهم سيعانون من انخفاض الأرباح.
رابعا:
عدم وجود آلية لإجبار الأطراف المتنافسة على الالتزام بأي اتفاق . و من
المعروف أن فرص نجاح أي اتفاق لتثبيت الأسعار في أي صناعة تتضاءل كلما زاد عدد
المنتجين . و تمثل صناعة الطيران الدولية ممثلة في منظمة الإياتا
حالة نموذجية لهذا الفشل.
خامسا:
التجانس الشديد بين منتجات الشركات المصنعة للألبان، إذ لا تكاد توجد فروق نوعية
حقيقية بين إنتاج شركة و أخرى.فالألبان هي الألبان.
إن
من المدهش أن تزدهر صناعة في بلد لا توجد مقوماتها الأساسية فيه. و
لكن صناعة الألبان تمثل أحد مجالات النجاح في تحويل رأس المال النقدي الذي
نتج عن النفط إلى رأس مال ينتج إنتاجا حقيقيا . إلا أن بعض الأخطاء التي رافقت
التجربة من دعم كبير مباشر و غير مباشر أوصل هذه الصناعة إلى وضع غير مريح
.و بناء على معلومات من مصادر مختلفة فإننا نقدر مساهمة صناعة الألبان السعودية في
الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لعام 2000م بحوالي 2500-2700 مليون ريال. ولقد بلغت
جودة الإنتاج حدا أن منتجات الألبان السعودية تصدر إلى بعض الدول المجاورة.و رغم
أن هذا أمر سار جدا إلا أنه يعني تصدير أهم مكونات هذه السلعة من بلد شحيحة
مياهه. و لقد اشتكى منتجو الألبان في الإمارات و قطر و عمان من انخفاض أسعار
الألبان السعودية بالنسبة لمنتجاتهم إلى درجة اتهامهم للمنتجين السعوديين باتباع
سياسة إغراقية . مما أدى إلى إغلاق مصنعين للألبان في قطر و امتناع المنتجين
الإماراتيين عن حضور اجتماع منتجي الألبان الخليجيين في الرياض في أكتوبر
الماضي . و ليس من المستبعد أن تمتد آثار حرب الأسعار السعودية الحالية إلى
الدول المجاورة مرة أخرى. و قد تؤدي هذه الحرب إذا استمرت إلى إغلاق مصانع أخرى
ليس في السعودية وحدها وإنما في دول الخليج أيضا، اللهم إلا إذا تدخلت
الحكومات المجاورة بفرض تعرفه جمركية أعلى على وارداتها من الألبان السعودية
. إلا إن هذا أمر مستبعد في ضوء سعي الحكومات الحثيث
على
توحيد السياسات الاقتصادية و تقليل الحواجز أمام التكامل الاقتصادي بين دولها .
و
من الطريف أن مشكلة إغراق سوق الألبان لا تقتصر على دول الخليج وحدها ، وإنما تشكو
منها دول مجاورة أخرى كمصر و التي يشتكي فيها منتجو الألبان الطازجة من
منافسة الألبان المجففة. وهذا أمر ملفت للنظر في بلد زراعي يفترض أن موارده
الطبيعية تجعله أكثر تأهيلا من دول الخليج لقيام صناعة ألبان ناجحة . و ربما كان
صغر حجم المشاريع و ضعف التقنية المستخدمة من أسباب مصاعب تلك الصناعة في مصر.
لقد
كان شراء شركة دانون الفرنسية ل 51% من أصول شركة الصافي في بداية هذا العام مؤشرا
على نجاح و جودة الألبان السعودية و مستقبلها الواعد . و لكن حرب الأسعار
الأخيرة ربما وجهت ضربة شديدة إلى أي استثمارات محتملة محلية أو أجنبية في
هذه الصناعة مستقبلا . و رغم قتامة الصورة فإنني أرى بعض الضوء في نهاية النفق.
*
أستاذ الاقتصاد المشارك
جامعة
الملك فهد للبترول و المعادن
الظهران
osama@kfupm.edu.sa