بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفوائض والديون في الميزانية العامة للدولة

ملاحظات واقتراحات

بقلم الدكتور/ أسامة بن أحمد عثمان*

 

اعلنت الحكومة عن الميزانية العامة للعام الحالي 1421/1422هـ (2001م) وقد تضمنت المراسيم الملكية وبيان وزارة المالية ثم المؤتمر الصحفي لمعالي وزير المالية معلومات كثيرة تتعلق بالشأن الاقتصادي للبلاد .  ويهمني في مقالي هذا المعلومات التالية :  أولاً  أن الميزان الجاري من ميزان المدفوعات سيحقق في العام المالي الماضي 1420/1421 فائضاً يبلغ 55.6 بليوناً من الريالات وأغلب هذا الفائض نتيجة  لارتفاع أسعار وكميات الصادرات البترولية .  ثانياً أنه ونتيجة لذلك الفائض فإن الفائض في ميزانية العام المالي الماضي تقدر بـ 45 بليوناً من الريالات .  ثالثاً :  أن ميزانية العام المالي الحالي 1421/1422هـ ستكون متوازنة عند 215 بليوناً .  إي أنه لايتوقع أن تكون هناك حاجة لاقتراض الحكومة للعام الثاني على التوالي .  رابعاً :  أن حجم الدين العام يزيد قليلاً على 600 بليون ريال .  وهو مايوازي قرابة 100% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي (618 بليون ريال) للعام المالي المنصرم  .  خامساً :  أن الفائض في الإيرادات سيوجه إلى تسديد جزء من الدين العام وتسديد جزء من الإلتزامات التي لم تغطها إعتمادات الميزانية ، أي مستحقات المزارعين والمقاولين والمؤجرين والموردين .  سادساً :  أن صندوق التنمية العقارية لم تخصص له ميزانية في السنوات السابقة بسبب إزدياد الطلب على قروضه ومحدودية موارد الدولة .  وأن وزارة المالية تدرس بالتعاون مع الغرف التجارية وبعض المؤسسات الدولية النظر في ترتيب قروض طويلة المدى للإسكان .  وليس من الواضح ما هو الوضع بالنسبة للصناديق الحكومية المتخصصة الأخرى .  ويستشف من المؤتمر الصحفي لمعالي وزير المالية أن لها نفس وضع صندوق التنمية العقارية .  ومع ذلك فإنه يتوقع أن تواصل هذه الصناديق إقراض المواطنين في المجالات الصناعية والزراعية والعقارية. ويتوقع أن يبلغ حجم القروض المقدمة لعام 1421/1422هـ 6.3 بليون ريال .  وبالطبع فإن هذه القروض ستمول من فائض أرصدة هذه الصناديق عبر السنوات الماضية . 

 

وبادئ ذي بدء فإن وجود الفائض في ميزانية الحكومة أمر سار ، إلا أنه ليس مدعاة للتراخي .  فإذا قارنا حجم الفائض بحجم الدين العام نجد أن الأخير يساوي قرابة أربعة عشر ضعف الأول .  أي أنه يجب أن يتحقق للحكومة فائض مماثل ولمدة أربعة عشر عاماً قادمة حتى يمكن سداد كل الدين العام .  وهو أمر من الصعب توقعه .  ومع ذلك فإنه إذا كان العجز والدين يمثلان مشكلة فإن الفائض يمكن أن يكون مصدراً لمشكلة مالم تحسن إدارته ومالم توجد الطرق المناسبة للتصرف فيه .  وقد رأى بعض الكتاب أن أفضل طريقة للتصرف في هذا الفائض هي في سداد ديون البنوك على الحكومة على أساس أن سعر الفائدة عليه ربما (وهذا أمر غير واضح) يكون أعلى من سعر الفائدة على ديون صندوقي التقاعد والتأمينات الأجتماعية .  كما أن ضخ هذه السيولة سيؤدي إلى زيادة قدرة القطاع البنكي على إقراض القطاع الخاص .  وقبل أن نجيب على هذ الرأي فإنه يجدر بنا أن نلاحظ أن ما لم تقترضه  الحكومة العام الماضي من دائنيها الرئيسين  ، السالف ذكرهم ، يمثل زيادة في الادخار الحكومي والقومي بالإضافة إلى الزيادة الظاهرة نتيجة للفائض .  ولتقدير مجمل الزيادة في الإدخار القومي للبلاد ،  نفترض أن إجمالي الدين العام الداخلي 600 بليون ريال ،  تراكمت على مدى سبعة عشر عاماً .  وبذلك يكون المعدل السنوي لدين الحكومة هو ما يزيد قليلا عن 35 بليوناً من الريالات .  وحيث أن الحكومة لم تحتج للإقتراض خلال العام الماضي فإن ذلك يعني زيادة في الإدخار القومي بمعدل 35 بليون ريال .  فإذا أضفنا إلى ذلك فائض الميزانية  تكون مجمل الزيادة في الإدخار القومي قرابة 80 بليوناً من الريالات .  وهذه زيادة كبيرة جداً ،  استبعد كثيراً ان تستطيع بنوكنا إستيعابها بإعادة ضخها في اقتصادنا الوطني حتى ولو انخفضت أسعار الفائدة . وهو أمر أحسب أنه محتم ،  خاصة في ضوء الإنخفاض الأخير لسعر الفائدة في أمريكا بمقدار نصف بالمئة .  ولو إفترضنا أن كل هذا الفائض قد وجد طريقه إلى البنوك فإن عدم وجود مرونة كافية بالنسبة لإقراض وإقتراض القطاع الخاص بشقيه الاستثماري والاستهلاكي سيؤدي بالبنوك إلى إيجاد منافذ أخرى لاستثماراتها .  أي أن هذه الفوائض ستجد طريقها إلى الخارج. ولما كانت هذه الإستثمارات مقومة بالدولار وغيره من العملات الصعبة فإن تلك الإستثمارات لا تعني مجرد خروج رؤوس الأموال إلى الخارج  وحسب  و إنما يضاف إلي ذلك استنزاف احتياطي البلاد من العملات الصعبة .  وبالتالي فإننا سنجد أن الفائض في الميزان الجاري من ميزان المدفوعات وميزانية الحكومة (الفائضين التوأمين) يمكن أن يكون لهما بعض الأثر السلبي غير المباشر على اقتصاد البلاد .  ولذلك فإن هناك حاجة ماسة لتذليل كل العقبات أمام الاستثمار المحلي .

 

ومهما كانت الزيادة في الطلب على الاقتراض من البنوك فإنني أستبعد أن تواجه البنوك نقصاً في الاحتياطيات. فما كانت تقرضه  البنوك للحكومة سيبقى عند البنوك ، كما أن  فوائض صندوقي التأمينات والتقاعد تودع لديها .  أي أن القطاع البنكي سيشهد زيادة في أحتياطياته لا تقل عن 35 بليون ريال .  ولذلك فإنني لا ارى أن تسدد الحكومة في الوقت الحاضر اياً من ديونها لهذه الهيئات الثلاث من هذا الفائض .  وإذا كان الأمر كذلك ، فما الذي يمكن أن تفعله الحكومة بالفائض المتحقق لديها وكيف يمكن لها أن تسدد هذا الدين الهائل ؟

 

وجوابنا على ذلك اننا نرى أن تضع  الحكومة كل هذا الفائض تحت سيطرتها المباشرة ونرى له الاستخدمات التالية .  أولاً :  أن تقوم الحكومة بسداد ما عليها من إلتزامات لم تغطها الميزانيات السابقة كحقوق المزارعين والمقاولين والموردين والمؤجرين .  وهذا ما تنوي الحكومة فعله كما أعلن وزيرالمالية .  ثانياً : أن تستخدم الحكومة بعضاً من الفائض في سداد جزء من الدين الخارجي على البلاد .  وقد لا يكون كله دين مباشر على الحكومة .  وتقدر إحصائيات صندوق النقد الدولي أن الديون الخارجية للمملكة حتى بداية عام 2000بحوالي 22 بليون دولار أي ما يعادل 82.5 بليون ريال .  وهذا يمثل 13.3% من الناتج الإجمالي المحلي لعام 2000 .  وينبغي هنا التفاوض على التعجيل في دفع الدين أو جزء منه مقابل الحط من مجموع مقداره عملاً بالحديث الشريف "ضع وتعجل" .  ثالثاً :  يمكن أن يستخدم جزء من الفائض في دعم موارد الصناديق الحكومية المتخصصة وهي الصندوق العقاري والبنك الزراعي ، وبنك التسليف ، وصندوق التنمية الصناعية ، وصندوق الاستثمارات العامة .  ومن المؤسف أن الحكومة لم تخصص لهذه الصناديق ، أو بعضها ، ميزانية محددة كما أسلفنا في صدر المقال .  لقد ذكر معالي وزير المالية أن الوزارة تدرس مع جهات دولية ترتيب قروض للإسكان لمقابلة إحتياجات الناس المتزايدة لبناء المساكن .  وربما تسعى الوزارة لترتيب قروض مماثلة في المجالات الاخرى .  فهل ستكون هذه قروضاً حسنة ؟  طبعاً لا .  ومن المعروف أن كثيراً من أبناء البلاد لا يقبلون على التعامل مع البنوك  بسبب الفوائد الربوية .  ولقد قامت البنوك المحلية بمسعي حثيث في السنتين الأخيرتين لتسويق قروض الاستهلاك الشخصي وتصاعدت معها قائمة غير القادرين على التسديد . و أشك كثيراً في أن كثيرين سيقبلون على قروض المساكن بالفائدة ليس لأسباب شرعية وحسب ولكن لأن حجم التكلفة الرأسمالية وطول مدة القرض للمساكن هي أكبر بكثير من حجمها بالنسبة لقروض السيارات أو الأثاث مثلاً .  ولذلك فإنه لا توجد مندوحة من تفعيل القطاعات الإسلامية في بنوكنا ودراسة العقبات التي تواجهها .  وهذا سيمكن القطاع الخاص من أن ينمو بصورة أسرع .

 

إن الإتجاه نحو تخصيص عدد مهم من المرافق الحكومية بالإضافة إلى عدم رصد ميزانية للصناديق الحكومية المتخصصة يعني أن الحكومة ستنسحب وبشكل حثيث من ممارسة جزء مهم النشاط من الاقتصادي للبلاد .  ولكن هذا سيكون له اثر إنكماشي على اقتصاد البلاد ما لم يمكن تنشيط إنفاق القطاع الخاص إستثماراً وإستهلاكاً بنفس الحجم ونفس السرعة .  وهو ما لا يبدو أنه سيحدث في القريب العاجل .  ومن الخطأ النظر إلى قروض هذه الصناديق على أنها عبء على اقتصاد البلاد .  فقروض هذه الصناديق ( ما عدا صندوق الاستثمارات العامة) نشاط استثماري خاص تموله الحكومة .  وتقوم الحكومة في هذه المجالات بدور مهم جداً لا تزال بنوكنا تتجنب الخوض فيه ولا ترتاح نفوس العامة من الناس للتعامل بشأنه مع البنوك .  ولذلك فإننا نرى أن يستخدم جزء من الفائض في كل عام يتوفر فيه مثل هذا الفائض في رفد موارد الصناديق الحكومية المتخصصة .  ويبين التقرير السادس والثلاثون لمؤسسة النقد العربي السعودي أن صافي  مجموع إقراض هذه الصناديق كان سالباً في عشر من السنوات خلال الفترة من 1987 – 1999م .  ولعل هذا ما يفسر طول فترة الانتظار للحصول على قرض حكومي وخاصة من الصندوق العقاري .  إن هناك الكثيرين ممن لا تسعفهم مواردهم لتقبل البنوك بإقراضهم حتى ولو أرادوا ذلك .  ولذلك فإنه يبقى للصناديق الحكومية دور هام جداً  في تنشيط اقتصاد البلاد من ناحية و في  توزيع الثروة  و الدخل من ناحية أخرى .

 

وأما الاستخدام الرابع لهذا الفائض فهو في زيادة مخصصات الضمان الإجتماعي .  ففي مقابلة مع معالي وزير العمل والشؤون الإجتماعية مع جريدة "الوطن" (العدد 81 ، 23 رمضان 1421هـ الموافق 19 ديسمبر 2000م) بين معاليه أن مخصصات الفرد الفقير من الضمان الاجتماعي هي 5400 ريال في السنة وأن مخصصات الاسرة الفقيرة هي 16200 ريال في السنة . أي أن ما يخص الفرد هو 450 ريال في الشهر وما يخص الأسرة الفقيرة هو 1350 ريال في الشهر .  وهذه مبالغ متواضعة بإعتراف معالي الوزير .  لا بل إننا إذا افترضنا أن متوسط عدد اطفال الأسرة هو ستة أطفال فإن ما يخص كل طفل منها بعد خصم مخصصات الوالدين ، هو 900 ريال في السنة ، أو 75 ريال في الشهر !! فهل يعقل أن تعيش اسرة من ثمانية أفراد بمبلغ 1350 ريال في الشهر ، خاصة في ضوء تزايد اسعار الخدمات الأساسية ؟ لا بل لقد بين معالي الوزير أن ما يصرف على الضمان الإجتماعي هو حوالي 3 بلايين ريال سنويًا. واحسب أنه مبلغ متواضع إذا قدرنا ، بناء هذه الأرقام  ، عدد المستفيدين من الضمان الاجتماعي من ذكور و إناث  و صغار و كبار بحولي 555 ألف مواطن. و قد يكون عدد المحتاجين فعلا  أكبر من ذلك بكثير.

 

وأما الاستخدام الخامس للفائض فهو أن يضم إلى الاحتياطي المالي للحكومة .  وبالطبع فإن بإمكان الحكومة وضع هذا الجزء من الفائض في استثمارات قصيرة الاجل في الخارج أو أن تودعه لدى بنكها (وهو مؤسسة النقد) وتصدر لنفسها "فائدة" مقابل هذه الودائع .  وأحسب أن هذه الحالة الوحيدة التي يمكن لجهة أن تتقاضى فائدة مقابل ودائعها دون محظور شرعي .

 

وإذا كنا لا نرى أن تستخدم الحكومة فائض ميزانيتها في سداد دينها الداخلي ، فكيف يمكن لها أن تسدد هذا الدين الهائل ؟

 

أرجو أن يتسنى لي الوقت للعودة إلى هذا الموضوع  في مقال قادم .

 

 

 

*أستاذ الاقتصاد المشارك

جامعة الملك فهد للبترول والمعادن - الظهران

osama@kfupm.edu.sa