بسم الله الرحمن الرحيم

البنوك الإسلامية بين الواقع والآمال*

بقلم : الدكتور اسامة أحمد عثمان

أسـتاذ الاقتصاد المساعد

جامعة الملك فهد للبترول و المعادن

بريد  الكتروني   osama@kfupm.edu.sa

 

في مقـال للدكتـور / أحمد النجـار في "الشـرق الأوسط" ( العدد 5455 وتاريخ 20/ 5/ 1414هـ ) شن الدكتور النجار هجوماً عنيفاً على البنوك الاسلامية متهماً إياها بالحياد عن مهمتها الأصلية في تنمية المجتمعات الاسلامية وبإهدار أموال كثيرة جداً في ممارسات مالية عادت بالخسارة الكبيرة على هذه البنوك 0 ورغم اني أشارك الدكتور النجار نظرته في أن البنوك الاسلامية لم تقم بالدور المرجو منها على الوجه الأتم بعد ،وبالتالي  فأنا اشاركه الرأي في أن اوضاع هذه البنوك في حاجة الى مزيد من المراجعة والأصلاح ، الا انني أخالفـه في ثلاث نقاط رئيسية ، ألا وهي :-

أولاً : ان الاحصائيات التي استند اليها قديمة في اكثرها وتعود الى عشر سنوات أو أكثر 0

ثانياً : انه عمم احكامه على جميع البنوك الاسلامية دون استثناء 0

ثالثاً : انه حصر اسباب معوقات الدور الصحيح لهذه البنوك في نوعية الأشخاص القائمين  على ملكية وادارة البنوك الاسلامية ودون استثناء ايضاً ، ودون الالتفات الى المعوقات الاخرى 0

 

وليس من شك في أن ممارسات كثيرة قد تغيرت وان اشخاصاً كثيرين قد تبدلوا خلال السنوات العشر الماضية وان هناك قرابة مائة بنك ومؤسسة مالية اسلامية لا تمارس جميعها نفس النشاطات ولا بنفس الطريقة 0 ولن اتحدث هنا  عن تفاصيل أعمال البنوك الاسلامية ، فالعاملون بها والذين يعايشونها معايشة يومية اقدر مني على ذلك 0 ولكني سأتحدث عن السمات العامة لطبيعة اعمال هذه البنوك 0 ولعلهيحسن بنا ان نبدأ الموضوع بتحديد الاهداف العامة للبنوك الاسلامية 0 ويمكن أن نوجزها فيما يلي :

 

أولاً : تطهير المعاملات المصرفية من الربا وسائر انواع المعاملات الاخرى التي تتعارض مع الشريعة الاسلامية 0

 

ثانياً : المساعدة على ايجاد حركة تنمية اقتصادية واجتماعية بايجاد قاعدة انتاجية في المجتمعات الاسلامية المحلية 0

ثالثاً : مساعدة الحكومات على ايجاد اسس للسياستين النقدية والمالية ، تخفف من عبء الضرائب والديون على الاقتصاد العام للدولة 0

 

رابعاً :  تنمية حركة التجارة والتبادل بين الدول الاسلامية 0

 

خامساً : ايجاد نموذج نظري وعملي لعلم الاقتصاد الاسلامي يمكن ان تستفيد منه المجتمعات الاخرى ويكون احد وسائل الدعوة الى الاسلام 0

 

والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو : ترى الى أي حد نجحت البنوك الاسلامية في تحقيق اهدافها المذكورة آنفا ؟ ولاشك في ان الجواب على ذلك هو ان البنوك الاسلامية لم تبلغ التحقيق الكامل لأي واحد من اهدافها فضلاً عن ان تحقق كل تلك الاهداف 0 واذا اردنا ان نستعرض الانتقادات التي توجه الى البنوك الاسلامية فانه يمكن تصنيفها كما يلي :

 

أ - انتقادات تتعلق بطبيعة النشاطات الاستثمارية من ناحية تغليب النشاطات قصيرة المدى كبيع وشراء العملات والمعادن وتمويل التصدير والاستيراد بدلاً من التركيز على المشاريع الانتاجية طويلة المدى 0

 

ب - انتقادات تتعلق بالتوزيع الجغرافي لهذه النشاطات من حيث ان جزء كبيراً من نشاطات هذه البنوك ( وليس كلها ) هو في دول غير اسلامية حتى وان حققت هذه النشاطات ارباحاً وعوائد مجزية في بعض الأحيان 0

 

ج- انتقادات تتعلق بطبيعة العقود التي تحكم علاقة البنوك الاسلامية بالغير من ناحية ان بعضها لا يخلو من شبهة الربا ومن ناحية النمو الكبير لعقود المرابحة 0

 

د- انتقادات تتعلق بالتأهيل الشرعي أو الفني ( أو كليهما ) لبعض القائمين على ادارة البنوك الاسلامية 0

 

ورغم اني لا ابري ساحة البنوك الاسلامية من التقصير ، الا انه ليس من العدل أو الانصاف ولا من المصلحة العامة ان تحمل البنوك الاسلامية وحدها وزر هذه العيوب 0 فالبنوك الاسلامية لا تعمل في فراغ ولم تنشأ في ظروف مثالية كي تقوم بدور مثالي ولا يمكن فصل ممارسات البنوك عن الظروف السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها 0 فالقائمون على البنوك الاسلامية ، وهي تنتشر على مساحة جغرافية واسعة من العالم ، يواجهون أشد العنت في بعض البلدان ، مما دعا بعضهم الى الهرب بأنفسهم وأموالهم ، فضلاً عن أموال ائتمنوا عليها ، الى خارج المنطقة الاسلامية 0

كما ان البنوك الاسلامية لا تستطيع ان تملأ وحدها الفراغ التربوي والتعليمي الهائل في مجال الحياة الاقتصادية الاسلامية 0 ولا غنى هناك عن سياسة رسمية من قبل الحكومات في اصلاح مناهج التعليم بحيث يصبح فقه المعاملات الاسلامية جزءاً لا يتجزأ من مناهج كليات العلوم الادارية 0

 

كما ان الطبيعةالخاصة للعلاقة القانونية بين البنك الاسلامي والمتعاملين معه والتي تستند اساساً الى قاعدة " الغنم بالغرم " لابد وان تنعكس على علاقة هذه البنوك بالبنوك المركزية للحكومات 0 فالقوانين المنظمة لهذه العلاقة الأخيرة انما تهدف الى حماية النشاط الاقتصادي وحماية المتعاملين في القطاع المصرفي ( بنوك ورجال أعمال وأفراداً عاديين ) من ان تطغى تصرفات جانب على آخر ، وذلك بناء على ما استقر من اعراف وقوانين تنظم العلاقة بين اولئك المتعاملين 0 فإذا تغيرت طبيعة هذه العلاقة ( من علاقة مداينة الى علاقة مضاربة أو مشاركة ) ، كان لابد من لسياسة البنوك المركزية تجاه البنوك ان تتغير 0

 

وتواجه البنوك الاسلامية في تعاملها مع الجمهور قيدين اقتصاديين مهمين :  ان على البنوك الاسلامية ان تدفع لعوامل " انتاجها " ( وخاصة العنصر البشري ) القيمة السوقية لهذه العوامل 0 بمعنى ان البنوك الاسلامية لا تستطيع ان تحصل على سعر تفضيلي في السوق لمجرد كونها اسلامية 0 فاذا اضفنا الى ذلك ان البنوك الاسلامية مطالبة بأن يكون لدى عناصرها فهم والتزام بنصوص الشرع وروحه اكثر مما هو لدى الفرد العادي ، بالاضافة الى المعرفة الفنية بالصناعة المصرفية ،ادركنا أي نوع من القيود يواجه البنوك الاسلامية في هذا المجال 0 وثاني هذه القيود الاقتصادية ان الفرد العادي يتوقع من البنوك الاسلامية ان توفر للمساهمين والمودعين معدل ارباح لا يقل في متوسطه عما توفره مجالات الاستثمارات الاخرى ، بما فيها البنوك التقليدية الربوية 0 صحيح ان بعض الناس قد يقبل بمعدل ربح اقل في بعض الاحيان ، طالما كانمطمئناً الى خلوه من شبهة الربا ، الا ان هذا الامر ليس على اطلاقه دائماً 0 وما دام الأمر كذلك فأنه ليس هناك من مفر أمام البنوك الاسلامية ( في بعض الحالات على الاقل ) من تقديم رضا المستثمر على أي اعتبارات اقتصادية او اجتماعية اخرى 0

 

وهناك قيد اجتماعي يتمثل في السلوك الادخاري للأفراد 0 والأدخار بقدر ما يتأثر بمستويات الدخل وتوزيع الثروة فانه يتأثر ايضاً بالعادات والمفاهيم الاجتماعية  0 ونتيجة لذلك فأن كثيراً من المخرين لا يستثمرون أموالهم الا في مضاربات قصيرة المدى هي اقرب الى الحساب الجاري منها الى الاستثمار الحقيقي 0 وهذا النوع من " الاستثمار " لا يمكن ان يكون العائد منه الا متدنياً نتيجة الطلب الحاد على السيولة وقصر فترة الاستثمار 0 وليس امام  البنك ( اسلامياً كان أو غيره ) في هذه الحالة الا الدخول في مجالات يمكن تسييلها في اقصر وقت كبيع وشراء العملات وتمويل التصدير والاستيراد وما الى ذلك 0

 

على أن اكثر انواع العقود التي تمارسها كثير من البنوك الإسلامية (وليس كلها ) إثارة للجدل هو عقد المرابحة . فهو أكثر العقود قرباً وشبهاً بعقد الفائدة الربوية إذ إن كلاهما يتضمن تحديد هامش للربح بصورة مسبقة وبمعزل عن العائد الحقيقي للمستثمر . ولكن هذا الشبه ليس تاماً فعقد المرابحة يتضمن تحميل البنك درجة من المخاطرة عند من يرى أن الوعد بإعادة الشراء ليس ملزماً قضاءً للآمر به . كما يقع على البنك الإسلامي مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه . ولابد أن ننبه الى أن عنصر المخاطرة هذا بالنسبة للبنك ليس متوفراً دائماً ، لابل انه يكاد يكون منعدماً في بعض الحالات وكبيراً في حالات أخرى .ولعل الدكتور أحمد النجار, وغيره من لا يرتاحون إلى بيع المرابحة , يستبشرون خيراً من أن نداءاتهم لم تذهب كلها سدى . فقد اوصى المجمع الفقهـي الاسلامي ، في دورته الثامنة التي عقـدت في سلطنة بروناي ( من 1 الى 7 محرم 1414هـ ) ، البنوك الاسلامية بمحاولة الاقلال من بيوع المرابحة والتوسع في الصيغ الاستثمارية الاخرى من مضاربات ومشاركات وتأجير وخلافة 0 وبيع المرابحة كما هو شائع الآن يؤدي الى زيادة عدد الوسطاء ( بإضافة البنك كمجرد ممول يتقاضى ربحاً ) بين البائع الأول والمشتري النهائي للسلعة 0 ولهذا اثر لا يخفى على ارتفاع الاسعار 0 اذ انه كلما زاد عدد الوسطاء وكان لكل واحد منهم ان يحقق ربحاً ( أو ان يحاول ذلك ) ، كلما ازداد احتمال ارتفاع ثمن السلعة عما لو غاب كل أو بعض اولئك الوسطاء 0 ودخول البنك الاسلامي مشترياً ومالكاً وحائزاً ( كما يدعو الدكتور النجار وغيره ) يعني انه في الوقت الذي يقوم فيه البنك بالتمويل فانه يحل محل بعض تجار الجملة والمفرق 0 او بكلمات اخرى فان البنك الاسلامي يتحمل هنا ما يتحمله أي تاجر من مخاطر التجارة وليس مجرد ممول لآمر بالشراء 0 على ان من المهم ان ننبه هنا انه لايمكن تطبيق عقد المرابحة بالصورة الاخيرة في جميع الاحوال 0 فمثلاً لا يعقل ان يقوم البنك الاسلامي بشراء مولدات كهرباء ضخمة لمدينة ما على اساس المرابحة ( بصورتها الاخيرة ) وهو لايضمن بيعها على سلطة الكهرباء في تلك المدينة 0

 

ولذلك فأن السلع التي يمكن تمويلها مرابحة ( أو فلنقل متاجرة ) هي السلع التي يتسم الطلب عليها بالتكرار والعموم ويمكن تجزئتها الى وحدات صغيرة وذات اسعار في متناول الفرد العادي 0 اما السلع التي تتصف بالاستخدام الخاص ( اي التي لايمكن استخدامها الا في مجالات محددة ومن قبل جهات معينة كمثال مولدات الكهرباء الآنفة الذكر ) ، ولا يتكرر طلبها في اوقات متقاربة ، فانها لايمكن ان تمول الا مشاركة او مضاربة 0

 

ولعل البنوك الاسلامية تفعل خيراً ان هي طعمت هيئات الرقابة الشرعية لديها بأعضاء دائمين من المختصين بعلم الاقتصاد 0 اذ ان هناك قاعدة فقهية تقول : العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً 0 وهناك من العلل في بعض المعاملات ما قد لايدركه من اقتصروا على الفقه بمفهومه المعتاد 0 وعندي يقين ان موضوع الربا والاثار المترتبة عليه لم تدرس بما فيه الكفاية بعد 0 وان الامر محتاج الى مزيد من البحث والدرس حتى نتجنب معاملات قد تنزلق بنا الى آثار ربوية عن غير معرفة ولا قصد 0 ولابد ان تراعي المقاصد العامة للشريعة و ألا يكتفي بالنظر الى المسائل موضوع الفتوى بمعزل عن ذلك 0

 

اننا وبصراحة شديدة نعيش في وقت اضطراب فيه حبل الدين وضعفت فيه الضمائر وقلت فيه الامانة ، وحينما يأتي الوقت الذي تشيع فيه عقود المشاركة والمضاربة فأن هذا يعني ان تغييراً هائلاً قد حدث في المجتمعات الاسلامية 0 ولكن حداثة عهد التجربة وعدم اكتمال التصور الصحيح عنها ليسا مبرراً لوأدها ، و إذا حدث وأن اضطرب سلوك الامام فان الحل لا يكون بهدم المسجد على اصحابه ولكن باصلاحه أو استبداله 0

 

* نشرت في "الشرق الأوسط" بتاريخ 14/ 6/ 1414هـ ( 17/11/1993م)، العدد 5468