إضرابات أوروبا ونجاح لأوبك غير مخطط له

بقلم الدكتور/ أسامة بن أحمد عثمان*

 

إنتهى مؤتمر قمة دول أوبك الثاني في الأسبوع الماضي بصدور "إعلان كاراكاس" ، والذي أكدت فيه الدول الأعضاء على المسؤولية المشتركة بين المنتجين وكبار المستهلكين تجاه استقرار سوق النفط ونظافة البيئة ومساعدة الدول النامية .  وكان قد سبق ذلك الاجتماع، اجتماع وزاري لدول المنظمة يومي 10 و 11 سبتمبر الماضي و الذي انتهى دون كبير عناء فيما يبدو بإعلان زيادة في إنتاج المنظمة بمقدار 800 ألف برميل يوميا . وهذه هي الزيادة الثالثة في إنتاج أوبك خلال هذا العام. و  بذلك يبلغ مجموع هذه الزيادات حوالي 3.2 مليون برميل يوميا .  ومع ذلك فإن الأسعار استقرت عند معدلات مرتفعة مقارنة بما كانت عليه قبل عام مضى ، لا بل  لقد ارتفعت في بعض الأحيان لتبلغ قرابة 38 دولارا  للخام الأمريكي .

 

ومن الطريف أن الزيادة الثالثة في إنتاج دول أوبك تزامنت مع انتهاء إضراب سائقي الشاحنات والمزارعين الفرنسيين والذي شل و لمدة أسبوع حركة نقل مشتقات البترول في فرنسا احتجاجاً على الضرائب العالية جداً على النفط ومشتقاته .  ولم يكد الإضراب الفرنسي ينتهي حتى بدأت حركة إضراب واسعة في بلجيكا وقد سبقتها حركة احتجاجات مماثلة في بريطانيا ، ثم امتدت حركة الإضرابات  لتشمل ألمانيا و هولندا و إيطاليا وايرلندا  ثم استراليا .

 

ثم أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن قراراها بسحب مليون برميل يوميا من إحتياطيها الاستراتيجي ولمدة ثلاثين يوماً. وسواء كان هذا الإجراء بسبب موسم الانتخابات الرئاسية في أمريكا أو بسبب الخوف من الآثار الاقتصادية للأسعار المستمرة في الارتفاع ،   فإن من الواضح أن الأسعار لا تزال فوق الثلاثين دولاراً للبرميل. وهذا يعني أن السوق لا تصدق ما أعلن ، خاصة و أن معظم الزيادة المعلنة في إنتاج أوبك هو أمر حاصل فعلا قبل الإعلان. كما أنه يعني أن الأسعار أبعد ما تكون عن الهدف المرتجى من قبل الدول الصناعية التي تطالب الآن بسعر يتراوح بين 20 25 دولاراً للبرميل ، بعد أن كانت تطالب بسعر يتراوح بين 16 22 دولاراً . وهذا التراجع في موقف الدول الصناعية نصر لدول أوبك و إن لم يسلط عليه ضوء كبير من وسائل الإعلام . ولعل أهم تراجع علني للدول المستهلكة هو إعلان الرئيس الأمريكي بيل كلنتون أن نطاق الأسعار الذي تطالب به أوبك يعد نطاقا معقولا.

  ويبدو أن الدول الصناعية قد أدركت أن هناك عوامل موضوعية خارج إرادة أوبك تحتم القبول بمعدلات أعلى للأسعار. فمعظم دول الأوبك تنتج قريبا من طاقتها القصوى للإنتاج . كما يبدو انه لا يمكن للاستثمارات في مجال النفط أن تتزايد ما لم يرتفع السعر فوق العشرين دولاراً .

ولكن أهمية الأحداث الأخيرة لا تكمن في مجرد الحفاظ على معدل أعلى لأسعار النفط ، و إنما في لفت قوي  لانتباه العالم عامة  و شعوب الدول الصناعية خاصة إلى  أن مسؤولية ارتفاع الأسعار لا تقع على عاتق جشع مزعوم لدول أوبك وإنما تقع أيضا على حكومات الدول الصناعية التي تفرض ضرائب عالية جداً على النفط ومشتقاته. وفي الوقت الذي يمكّن هذا الوضع دول أوبك من الحفاظ على أسعار أعلى فإنه يعزز موقفها بأن هناك مسؤولية سياسية وأخلاقية مشتركة بين الدول المصدرة والدول المستهلكة تجاه رفاهية دول العالم.ومن هنا فإن الرسالة الواضحة لحركة الإضرابات في أوروبا إلى حكوماتها أنه إذا كانت أوبك غير راغبة أو غير قادرة على فعل شئ ملموس لتخفيف العبء عن المستهلك الفرد في هذه الدول ، فإن على حكومات أوروبا أن تقوم بنصيبها من المسؤولية .

 

وتوضح أدبيات اقتصاديات الطاقة المنشورة منذ أوائل الثمانينيات أن هذا كان من الأمور التي تخشى الدول الصناعية حدوثها . إذ أن وجود هذه الضرائب يمكن أن يفسر على أن باستطاعة هذه الدول تحمل أسعار أعلى. و بالتالي فإن تزامن ارتفاع أسعار التصدير مع وجود ضرائب عالية جداً على مستوردات النفط ومشتقاته يعني سباقاً مقصوداً أو غير مقصود بين حكومات المصدرين وحكومات المستهلكين على جيوب ودخول الأفراد والشركات .وفي هذه الحالة فإن حكومات الدول المستهلكة قد لا تجد مناصا من تخفيض الضرائب على النفط . و إن حدث هذا  فسيكون النصر الثاني لدول أوبك .  لقد قامت حكومات الدول الأوربية بتقديم تنازلات رمزية لمواطنيها للتخفيف من الأعباء الضريبية لاستهلاك النفط، إلا أن مؤتمر الدول الصناعية السبع ، والذي عقد في براغ قبل المؤتمر المشترك لصندوق النقد الدولي   و البنك الدولي ، أعلن أن الدول الصناعية لن تقوم بتخفيض الضرائب على النفط .  وهذا يعني أن حكومات الدول المستهلكة لا تزال ترفض التنازل حتى الآن عن غنائمها الضريبيه على أمل أن تنخفض أسعار النفط الخام أما بفعل فاعل أو بفعل القوى الطبيعية للسوق .

 

لقد تنبأت الدراسات الغربية المشار إليها آنفا بكثير مما حدث ويحدث هذه الأيام إلا    أمرا واحدا  هو حركة الإضرابات الواسعة هذه . وهكذا فإن حكومات الدول الصناعية تجد نفسها في موقف فريد لم يحدث من قبل .  فهي مضطرة للعمل على جبهتين في آن واحد ،  جبهة خارجية لإقناع دول أوبك بزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار ، وجبهة داخلية لإقناع شعوبها أنها ليست المذنب الوحيد ! ولكن طرافة هذه الأحداث لا تنتهي هنا .  إذ بينما تطالب أوبك بسعر يتراوح بين 22 28 دولاراً للبرميل وتقبل الدول الصناعية بسعر يتراوح بين 20 25 دولاراً ، فإن التداخل بين النطاقين السعريين يعنى أن مواقف الدول الصناعية بدأت تقترب شيئا ما من مواقف دول أوبك . و بعبارة أخرى فإن السعر الذي تنادي به أوبك ليس بعيدا عن السعر "المعقول" كما اعترف الرئيس الأمريكي . إن الأمر الذي يغيب عن كثيرين هو أن السياسة الضريبية لحكومات  الدول الصناعية تؤذي كلا من المستهلكين في هذه الدول و المصدرين في آن واحد.إذ أنها في الوقت الذي ترفع فيه السعر على المستهلكين  فإنها تقف حائلا دون قدرة المصدرين على زيادة إيراداتهم عند انخفاض الأسعار. وبالتالي فإنه ليس هناك من خيار أمام أوبك سوى تخفيض الإنتاج لترتفع الأسعار عسى أن ترتفع إيراداتها. و هذا أمر معروف في الأدبيات الغربية منذ الثمانينيات ، إلا أنها كانت تأمل ألا تكتشف أوبك هذا الخيار .و يبقى على أوبك أن تقوم بحملة دعائية ضخمة لتبيان هذه الحقائق .وهذا سيشكل عاملاً إضافيا  للضغط على حكومات الدول الصناعية لتخفيض الضرائب على النفط ومشتقاته. و في دراسة لمنظمة أوبك بينت أن 68%  من السعر النهائي للمنتوجات  المكررة من  النفط  يذهب إلى حكومات الجماعة الأوروبية  على شكل ضرائب ، و 16 % للشركات و 16 % للدول المصدرة . و إذا نظرنا إلى الدول الصناعية السع وجدنا 49 % من السعر  يذهب إلى حكومات هذه الدول ، و 26 % للشركات و 25 % للدول المصدرة .أما إذا أخذنا دول منظمة دول التنمية  و التعاون (OECD) فإن الضرائب تشكل 48 % من السعر النهائي ، و  30 % منه للشركات و يبقى للدول المصدرة 22 % فقط . و بهذا فإن نصيب الدول المصدرة هو الأقل دائما .(WWW.OPEC. ORG) .

 

إن النصر الذي حققته أوبك لم يكن مخططا له من قبلها بدليل أن بعضا ممن كانوا أكثر الخارجين على قانونها بالأمس أصبحوا صقور اليوم  .  ولعل الذين خططوا لهذا الأمر خدمة لمصالحهم هم لم يتوقعوا أن ينقلب السحر على الساحر . ولو توفر لدول أوبك قدر كاف من الإرادة السياسية لكان بإمكانها مساومة الدول المستهلكة على أن أي زيادة ملموسة في الإنتاج يجب أن يصاحبها انخفاض ملموس في ضرائب الأخيرة على وارداتها من البترول ، تخفيفا عن المستهلكين ودعما لمبيعات المصدرين .

 

و في تقديرنا  أنه سيكون لهذه الإضرابات  آثار بعيدة المدى على دول أوروبا بالذات .  فالخطر على إمدادات الدول المستهلكة للنفط لم يعد خطراً خارجيا وحسب وإنما هو خطر داخلي أيضاً .   إذ تبين أن النقابات في الدول المستهلكة ليست بالضعف الذي كان يظن أنها أصبحت عليه منذ الثمانينيات حينما طغت الموجة الثاتشرية _ الريجانية على اقتصاديات هذه الدول و التي كان من أهدافها كسر قوة النقابات . ولقد برهنت هذه الإضرابات  على أن اقتصاديات دول أوروبا يمكن أن تقع رهينة في أيدي جماعات قوية التنظيم متى ما أرادت ذلك .  كما أن التذمر الشديد من الأسعار العالية والضرائب دليل على ما يقول به بعض علماء الاقتصاد من أن التضخم مظهر من مظاهر  الصراع الطبقي . ومن هنا يمكن أن نفهم دعوة فرنسا والمفوضية الأوربية لقيام حوار بين المستهلكين والمنتجين .

 

وأغلب الظن أن الضرائب بصورة عامة ،و الضرائب على النفط بصورة خاصة ، ستكون من الآن وصاعداً موضوعاً هاماً في انتخابات دول أوروبا .  و ما لم يحدث انخفاض ملموس في أسعار النفط ، وهذا أمر مستبعد قبل مرور عدة أشهر ، فإن أوروبا ستكون على موعد مع إضرابات في الشتاء المقبل أشد وأقسى .  و قديماً قالت العرب "من مأمنه يؤتى الحذر" .

 

 

 

*الدكتور/أسامة بن أحمد عثمان

 أستاذ الاقتصاد المشارك

 جامعة الملك فهد للبترول والمعادن - الظهران 

 osama@kfupm.edu.sa