صحيفة الاقتصادية الالكترونية - كُـتـّاب الاقتصادية - الأحد, 15 شعبان 1429 هـ الموافق 17/08/2008 م - - العدد 5424
أرشيف القسم


اقرأ أيضاً
البيروقراطية.. سلطة بلا حدود!
الرهن العقاري وأنواعه محلياً وعالمياً
هل تناقص معدل البطالة؟!
الركود الاقتصادي العالمي والعاصفة الكاملة
هل "تغلّس" إســرائيل على مشـروع ابن لادن؟
"صورة السعودي" في الخارج: مصادر التشويه وأسباب استمراره..
تمنيت أن أصبح ميكانيكي سيارات! (2 -2)

   
أولمبياد بكين .. العالم يحتفي بالصين وليس العكس
د. أسامة أحمد عثمان  -  15/08/1429هـ
osama@kfupm.edu.sa


"عالم واحد وحلم واحد" كان الشعار الذي اتخذته الصين للدورة الأولمبية الـ 29، التي افتتحت في بكين في الثامن من آب (أغسطس). أنفقت الصين خلال السنوات السبع التي سبقت الدورة 44 مليار دولار لبناء القرية الأولمبية وبناء شبكة حديثة من الطرق وأنفاق المترو والمطارات والفنادق والمساكن. وحضر افتتاح الدورة 90 من زعماء العالم, وهو حشد سياسي لم يسبق له مثيل في حدث رياضي في العالم, وبدا وكأن العالم هو الذي يحتفي بالصين وليس العكس, في إشارة إلى الأهمية المتزايدة على المسرح العالمي للبلد المضيف. حققت الصين انطلاقة اقتصادية كبيرة جدا خلال الـ 30 عاما الماضية بعد أن انفتحت على العالم لتعوض فترة انغلاق واضطراب كبيرين استمرا معظم سنوات القرن الـ 20. وقد أتت خطوات الانفتاح الأولى من الخارج من خلال الزيارة السرية التي قام بها إلى الصين هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السابق, ثم زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين عام 1972 واجتماعه بالرفيق ماو تسي تونج عقب هزيمة أمريكا في حرب فيتنام, التي كان للصين فيها دور غير مباشر كبير.
وعقب وفاة ماو في 9 أيلول (سبتمبر) 1976 نشب صراع على السلطة بين ما عرف "بعصابة الأربعة" بزعامة أرملة ماو والتيار الإصلاحي في الحزب الشيوعي الصيني. وانتهى الصراع سريعا بانتصار التيار الإصلاحي. وكان من ثمرة ذلك استدعاء دينج هيسياوبنج من منفاه ليكون نائبا لرئيس الوزراء وليكون مهندس النهضة الحديثة للصين منذ عام 1978. اتخذ دينج شعارا براجماتيا يقول "ليس المهم لون القط أبيض أم أسود، المهم أن يصطاد الفئران" ولم ينتظر دينج طويلا فقد قام بزيارة إلى الولايات المتحدة استمرت أسبوعا وذلك في كانون الثاني (يناير) 1979. ودشن دينج بذلك انفتاح الصين على العالم أجمع وانتقلت الصين بسرعة من النظام الشيوعي المتحجر إلى نظام مختلط يجمع بين رأسمالية الدولة والرأسمالية الفردية. وتدفقت على الصين الاستثمارات الأجنبية من كل حدب صوب ونما الاقتصاد الصيني بمعدل مستوى بين 8 في المائة إلى 10 في المائة مقارنة بنمو اقتصادي في أمريكا وأوروبا يراوح بين 2 و3 في المائة, وتحسن المستوى المعيشي لنحو 300 ـ 400 مليون صيني تحسنا كبيرا قياسا إلى ما قبل دينج هيساوبنج. كما أصبحت الصين أحد أكبر المستثمرين حول العالم.
وعلى الرغم من وجود شكوك حول دقة بيانات النمو سواء كانت صادرة من الحكومة الصينية أو عن البنك الدولي, إلا أن هناك إجماعا بين المراقبين أن الصين قد حققت إنجازات اقتصادية كبيرة خلال الـ 30 عاما الماضية حتى أصبحت تسمى "مصنع العالم" لتنوع وكثرة ما تصدره الصين إلى دول العالم. وقد أصبح الاقتصاد الصيني ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد أمريكا واليابان. وتشير دراسات برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى أن الاقتصاد الصيني مقيسا بالقوة الشرائية يبلغ 86 في المائة من حجم الاقتصاد الأمريكي عام 2008. إلا أنه من المتوقع أن يبلغ حجم الاقتصاد الصيني 132 في المائة من حجم نظيره الأمريكي عام 2020. أي أن حجم الاقتصاد الصيني سيتجاوز حجم كل من الاقتصاد الأمريكي واقتصاد أوروبا الغربية. وستكون لهذه التغيرات حسب التقرير المذكور "آثار اقتصادية وسياسية زلزالية".
لقد اتسمت السياسة الاقتصادية للصين بإيجاد قوة دفع كبيرة للاستثمار والصادرات عن طريق السيطرة على تكاليف مدخلات الإنتاج من ناحية والحفاظ على سعر صرف منخفض لليوان الصيني من ناحية أخرى. ونتيجة لنمو الاقتصاد الصيني السريع ونمو صادراته تكون لدى الصين أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم يبلغ 1.8 تريليون دولار. نتيجة لذلك فقد أدخلت الصين تعديلات على سياستها بشأن الاستثمار الأجنبي لديها، فلم يعد الاستثمار مشجعا لمجرد خلق المزيد من الصادرات، فقد أكدت السياسة الجديدة على جذب الاستثمارات في مجال التكنولوجيا العالية والتكنولوجيا الصديقة للبيئة.
وعلى الرغم من تحسن مستوى المعيشة للفرد في الصين, إلا أن معدل الاستهلاك لم يتجاوز 44 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2004 مقارنة بـ 80 في المائة في أمريكا، و77 في المائة، في بريطانيا و61 في المائة، في اليابان (مجلة التمويل والتنمية ـ صندوق النقد الدولي سبتمبر 2007). وهذا يعني مستوى عاليا من الادخار والاستثمار بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. وقد حاولت الدول الغربية إقناع الصين دون جدوى بتخفيف سرعة نمو اقتصادها وتخفيض صادراتها عن طريق زيادة الاستهلاك من ناحية ورفع سعر صرف اليوان الصيني من ناحية أخرى, إلا أن مثل هذا التغير في السياسة الصينية إن حدث لن يكون دون ثمن، فإذا قرر الصينيون استهلاك المزيد من السلع التي ينتجونها أو ينتجها الآخرون فإن ذلك لا بد أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع لدى الشركاء التجاريين للصين. أي أن على دول العالم إما أن تقبل بالمزيد من الصادرات الصينية وإما المزيد من التضخم الوارد من الصين!
إن الانفتاح الاقتصادي الصيني على العالم بقدر ما هو سبب رئيس لنجاحات الصين، إلا أنه يمثل نقطة ضعف كبيرة في الوقت نفسه، وذلك أن اقتصاد الصين يبقى رهنا لأي خضات اقتصادية أو سياسية خارجية، وبالتالي فإن حدوث ركود اقتصادي لدى الشركاء التجاريين الرئيسين أو ارتفاع في سعر الصرف الحقيقي لليوان سيؤدي إلى انخفاض الصادرات، ما يؤدي إلى انخفاض أرباح الشركات الصينية، وبالتالي انخفاض الاستثمار وتوظيف العمالة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى توترات اجتماعية وسياسية في الداخل، لكن هذا قد لا يكون أمر حتمي الوقوع إذا استطاعت الصين توجيه المزيد من استثماراتها وصادراتها نحو المناطق الداخلية التي لم يصبها التطور بعد. وربما يكون هذا أمرا ضروريا لحل مشكلة التفاوت الشديد في مستويات التطور الاقتصادي بين مناطق الصين، ذلك أن أغلب المناطق الجاذبة للاستثمار هي مناطق ساحلية وذلك بفعل سياسات الحكومة.
وهذه الأمور على أهميتها الكبيرة قد لا تكون أهم التحديات التي تواجهها الصين في المستقبل, فهناك تحديات داخلية وأخرى خارجية، فعلى الصعيد الداخلي تشكل مسألة الحريات المدنية تحديا كبيرا، إذ لا يزال الحزب الشيوعي يسيطر على مقدرات الدولة ولا مجال هناك لتشكيل أي أحزاب سياسية. وقد لاحظت خلال زيارتي للصين في أيار (مايو) الماضي أن السياسة هي آخر أمر يمكن أن يتحدث إليك فيه الصينيون. ولا يمكن للحكومة أن تختصر تطور المجتمع في الجانب الاقتصادي البحت.
ويشكل الحفاظ على النسيج الاجتماعي والأخلاقي للشعب الصيني تحديا آخر، فالقيم الغربية تتسلل إلى المجتمع الصيني بسرعة كبيرة. وفي ظل انحسار أثر العقيدة الشيوعية على المجتمع فإنه لا تكاد توجد لدى الحكومة أمثولة محلية تشكل قدوة يستنير بها المجتمع. كما تشكل حقوق الأقليات العرقية تحديا آخر، إذ يوجد في الصين 56 أقلية قومية, بينما تشكل قومية الهان الأغلبية العظمى من الشعب أكثر من 80 في المائة وتسيطر على مقدرات الحزب والدولة والاقتصاد.
أما التحديات الخارجية فأولها استمرار الإمدادات من المواد الأولية اللازمة للاقتصاد الصيني. وفي ظل استمرار أزمة الطاقة والغذاء في العالم واستمرار التوترات السياسية في مناطق مختلفة منه فإن الحفاظ على تدفق هذه الإمدادات يشكل أمرا حيويا لاقتصاد بالغ الاعتماد على الخارج. إلا أن أهم تحد خارجي يواجه الصين في المستقبل هو العلاقات مع الولايات المتحدة، فمنذ وفاة ماوتسي تونج اتبعت الصين سياسة مهادنة للولايات المتحدة مفضلة التركيز على الشؤون الاقتصادية. وقد نجحت الصين في ذلك دون أن تطلق رصاصة واحدة أو ترسل جنديا واحدا لأي مكان في العالم، لكن هذا الأمر قد لا يستمر، إذ يشعر الغرب بصورة عامة, والولايات المتحدة بصورة خاصة بالقلق الشديد من النمو السريع للصين ومن برنامج تسلح صيني لا يعرف عنه الكثير. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991, قامت الولايات المتحدة بمحاولة تطويق كل من روسيا والصين عن طريق توسيع عضوية حلف الأطلسي في أوروبا في حالة الأولى وزيادة عدد القواعد العسكرية والتحالفات السياسية والعسكرية لدول مجاورة في الحالة الثانية.
وعلى الرغم من الحجم الاقتصادي الكبير للصين, إلا أنها لا تزال تلعب دورا ثانويا في السياسة الدولية وليس من المحتمل أن تقوم الصين بتغيير كبير في هذه السياسة في المستقبل المنظور.
ففي الشهرين اللذين سبقا افتتاح الألعاب الأولمبية قامت الصين بثلاثة تحركات تصالحية مهمة. أولها توقيع اتفاق مع الابنة الشرود تايوان شمل فتح مكاتب تمثيل للحكومتين في عاصمتي البلدين "أشبه بسفارتين؟"، كما شمل الاتفاق تيسير النقل الجوي المباشر بين البلدين, بعد أن كان ذلك غير مسموح به في السابق. ثاني تلك التحركات توقيع اتفاق مع اليابان حول حقول غاز بحرية متنازع عليها. وثالث هذه التحركات توقيع اتفاق مع روسيا لتسوية خلافات حدودية قديمة. ولا يمكن القول إن المقصود من التحركات التصالحية هو إعطاء الصين صورة دولية طيبة قبيل الألعاب الأولمبية التي تستضيفها, وإن كان ذلك حاصلا بالطبع، إذ إن لهذه الاتفاقيات آثار بعيدة المدى, وربما دائمة على الأطراف المتعاقدة. لذلك فإنه من المستبعد أن تقوم الصين بإجراء تغيير جذري في سياستها الخارجية عامة وتجاه أمريكا خاصة ما لم تقم الأخيرة بالتحرش بالصين، وذلك إما بمحاولة التأثير في إمدادات المواد الأولية إلى الصين، خاصة إمدادات الطاقة, أو دفع بعض جيران الصين للتحرش بها, أو إثارة القلاقل داخل الصين بتحريض الأقليات العرقية ضد الحكومة المركزية في بكين.
لقد كان اندلاع الحرب بين روسيا وجورجيا في يوم حفل افتتاح الدورة الأولمبية نذير شؤم لمستقبل العلاقات بين الدول، خاصة علاقات الصغار بالكبار، وتذكيرا بأن الأماني الطيبة "بعالم واحد وحلم واحد" لا تكفي للحفاظ على السلام والحقوق في العالم.

1056 قراءة


ابحث بالجريدة
بحث متقدم


[ إدارة التحرير ] [ راسلنا ] [ للإعلان بالموقع ] [ مواقع شقيقة ] [ مواقع مميزة ] [ الشريط الاقتصادي ] [ الشريط الرياضي ]
Powered by Alnashir v2.05 Copyright dci.net.sa

جميع الحقوق محفوظة لجريــدة © 2008 - 1429