وأخفُ من بعضِ الدواءِ الداءُ

 

كان في قرية بيوت بنيت أسقفها وجدرها وأرضيها من أصفى وأنقى وأطهر وأقوى ما يمكن للتراب أن يُخرج على أيد من لحم ودم قد اختلط بهما هدى السماء، فكانت كل لبنة من لبنات تلك البيوت كلمات السماء بلغة الأرض أو نداء الأرض للسماء وكونت البيوت في مجموعها جمل كتاب تاريخ عظيم.

وتتابعت الأجيال ... كل يضيف في البيت ويُجَمِّله ويحسنه ويُكَمِّله بعلم وفقه وبصيرة ليواكب احتياجات زمانه.

وتعاقبت السنون ... وظهرت أجيال أخرى غير سابقيها، أضافت في البيوت بأهوائها وجهلها مالا يتفق مع أسس بناء البيت وروحه، وتبعتها أجيال أخرى أهملت البيوت كُلّيه فعلق بأسقفها وجدرها وأرضيها وأثاثها وفرشها ما ليس من أصلها من شوائب وعناصر فاسدة حتى ما عادوا يميزون بين الأصل والعناصر الدخيلة وبين مواد بنائه الأصلية وما غطاها من تراب الأرض وغبارها بل وما بين ما هو حقيقي وما هو زائف.

وعلم جماعة من الناس ما حَّل بالقرية فانقضوا عليها ودخلوا بيوتها بيتاً بيتاً وأخذوا في إزالة كل ما علق بها من شوائب وعناصر دخيلة.

وبعد أن انتهوا نظروا في الأمر وقالوا لأنفسهم: لو أننا تركنا ما في البيوت قائم كما هو لعادت الشوائب ثانية، وقال أحدهم: لو أننا علَّمنا أهل كل بيت وفقهناهم في التمييز بين الأصل وبين الدخيل لحرس كل أهل بيت بيته. فأجاب آخر: ولكن هذا قد يطول، وإنني أرى أن نأخذ بمبدأ الحيطة، فنعود إلى كل بيت ونخلع كل ما يحتمل أن تعلق به شائبة أو أن يدخل فيه عنصر دخيل ... فكان هذا ما استقر عليه أمر هذه الجماعة.

فعادوا إلى كل بيت وأخذوا في إخراج كل مادة أو عنصر كان قد تراكم عليه تراب أو غبار أو شوائب فبدأوا بالأثاث والفرش فأخرجوهما خشية أن يتراكم عليهما التراب والغبار ثانية، وعملاً بمبدأ الحيطة عمدوا إلى الجدر فأزالوا طلاءها وما تحت الطلاء وإلى الأرضية فخلعوا بلاطها وما تحت البلاط وإلى سقفها فأسقطوا كل ما تدلَّى منها، فأصبحت البيوت أشبه ما تكون بالقبور منها إلى البيوت فهي تحمل معنى وحشية القبر أكثر مما تحمل معنى سكينه وسكن المسكن والبيت.

 ولم تكتف هذه الجماعة بذلك بل وضعت على كل بيت حارس يحرم دخول كل شيء دون أي استثناء أو اعتبار بتغير احتياجات البيوت وأهلها وتغير الزمن وضروراته.

وقُهر الجيل الأول على قبول ذلك ... وقبل الجيل الثاني على مضض ... وجاء الجيل الثالث وتغير الزمن ولكن بقيت البيوت وحراس البيوت كما هم وتعذر على الحراس منع وصول أخبار القرى المجاورة إلى قريتهم، وأصبح العالم كله أشبه ما يكون بقرية واحدة فرأى أهل القرية وسمعوا وهم في بيوتهم أخبار القرى المجاورة وما آلت إليه المدنية فأدركوا خواء بيوتهم من أمورٍ كثيرة هم في حاجة إليها لإكمال بيوتهم ولإضفاء معنى المسكن عليها من سقف وبلاط وطلاء وبسط وفرش فمنهم من حنَّ إلى ما كان في بيته قبل أن يفرغ من محتواه فطالب بما كان في البيت فمنعوها وأما الأغلبية من أهل القرية فما عادوا يريدون ما كان في بيوتهم من قبل فقد سُحرت أعينهم بما رأوا في القرى المجاورة وطربت آذانهم بما سمعوا حيث إنهم لم يتمرسوا حق حرية الاختيار ولم يعطوا فرصة التفكير ولا أدوات التمييز بين الاصالة والزيف وبين الحق والباطل وصار جل همهم أن يسترقوا النظر من نافذة بيوتهم لعل الحراَّس يغفلون عنهم ساعة ليدخلوا إلى بيوتهم ما حرَّم عليهم الحراَّس.

وفي يوم حدث انفجار عظيم في قرية من القرى البعيدة فسمع أهل القرية دوى الانفجار ورأوا دخانه أما الحراَّس فمنهم من هرع إلى مكان الانفجار ومنهم من وقف مذهولاً مشلولاً لا يدري ما يفعل ووجد أهل البيوت بيوتهم وقد وهنت فيها الحراسة فسارع كل بيت بإدخال كل ما هب ودب من القرى المجاورة كالمتلهف الظمآن يحسب السراب ماءً لشدة ما قاسى من الظمأ والحرمان.

وأخذ جماعة من أهل البصيرة يبحثون عن تلك المواد والعناصر التي كانت في البيوت قبل أن تقلع وتخلع وتزال فقيل لهم ... لقد ألقي بها في البحر.

وعاد كل أهل بيت يُدخل في بيته مواداً غريبة لا تخرج من أرضهم ولا تحمل روح لبنات بيوتهم. وبعد إن كانت البيوت في مجموعها جمل كتاب تاريخ عظيم صارت في مجموعها جمل كتاب تحكي مأساة قرية فقدت ذاتها وقطعت ما بينها وبين السماء فلا هي ضربت لنفسها جُذوراً في الأرض ولا ارتفعت عن تراب الأرض فقد دفنتها معاني التراب وهي ما زالت قائمة فوق التراب.

أما الجماعة التي نصبت نفسها لتطهير بيوت القرية بادئ الأمر وآثرت أن تقدم مبدأ أخذ الحيطة في كل تقديراتها فقد ذهبت جهودها أدراج الرياح ولو أنهم أهدوا إلى أهل القرية أدوات التمييز وفرصة التفكير وحق حرية الاختيار لكان أهل البيوت هم حراَّسها ولما فقدت القرية القدرة على التمييز بين الحق والزيف ولكنهم أفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح وهدموا من حيث أرادوا البناء.