قصة فيها عبره كما انها مشوقة

 

كان سيف، ابن جاري وصديقي في الجامعة، عاشقاً لمادونا. وإذا دخلت إلى غرفته فلن ترى فيها شيئاً غير مادونا.. فصورها تملأ الحيطان وأبواب الخزانة وظهر الباب.. حتى السقف ألصق عليه صورة كبيرة لمادونا، وهي شبه  ..... ، لا أعرف من أين حصل عليها.. وكان يمتلك أرشيفاً كبيراً لها من الصور والمقابلات والتصريحات، وقد خزّنها في ذاكرته حتى أنك لو سألته في أي لحظة عن بعض التفاصيل في حياتها لأجابك دون تلكؤ.
كان إذا سمع عن صدور ألبوم جديد لها، لا ينتظر نزوله إلى السوق بل يسافر إلى بيروت لشراءه، وكان وضعه الاقتصادي يساعده على ذلك..
بعد تخرجنا من الجامعة، فرع الأدب الإنكليزي، عمل هو في شركة سياحية، وسافرت أنا إلى الخليج للعمل هناك. صرت ألتقيه في إجازاتي فقط.
وفي إجازتي الأولى، في الصيف، زرته في بيته، أحمل له هدية كنت أعرف أنه سيسر لها، وقد كان شريط فيديو جديد لمادونا وصل إلى الخليج قبل أيام من إجازتي.
عندما نظر إلى الشريط واكتشف أنه جديد، هجم علي وعانقني وقبلني ثم تركني مسرعاً إلى جهاز الفيديو لمشاهدته. تأملته وهو جالس يشاهد، بعشق ووله، مادونا وجسدها الذي يطفح جنساً، ثم تأملت الغرفة.. لقد أصبحت الآن مثل المكعب الحجري، على كل مربع منها صورة لمادونا.. وبين المربعات تظهر بعض الخطوط التي تدلك على أثاث الغرفة أو نوافذها وبابها..
بعدما أنهى مشاهدة الشريط، التفت إلي وقال: كنت أنوي السفر إلى بيروت حين وصول الشريط، ولكنهم في الخليج الآن، أصبحوا يسبقون بيروت أحياناً باتصالهم بالعالم الخارجي.. قلت له وأنا أشير إلى الصور: ماذا ستفعل بها حين تتزوج وتأتي زوجتك إلى هذا المكان؟ رد علي قائلاً: ومن قال لك إني سأتزوج. قلت له: هذه سنة الحياة.. ولا تستطيع بالطبع أن تتزوج مادونا. أجابني: ومن قال إني لا أستطيع؟.. إني أتزوج مادونا كل يوم.. أتزوجها في أحلام يقظتي، وقبل نومي، وأحياناً في نومي. قلت له بإشفاق: إلى متى ستبقى على هذه الحال؟.. نظر إلي مطولاً، بصمت، ثم وقف وتمشى.. وكان خلالها يقف وينظر إلي هاماً بالكلام لكنه يحجم.. أدركت أن هناك شيئاً ما ينوي إطلاعي عليه ولكنه يتردد.. قلت له بصوت ودود: ما القصة؟ قل لي..
تغلب على تردده واقترب مني وقال: أنت صديقي الوحيد الذي يعرفني جيداً.. لذلك سأخبرك.. كنت أنوي كتمان هذا الأمر عن الجميع بما فيهم أنت..
جلس بقربي وبدأ يحدثني بصوت خافت، قال: أنت تعرف أنني أراسل مادونا منذ أيام الجامعة. قلت له: أعرف ذلك. قال: منذ أشهر، وبعد مشاهدتي لها في فيلم تقوم فيه بدور امرأة آسرة ومسيطرة، طفح بي عشقها، فكتبت لها في رسالتي، إنني مستعد أن أقدم لك عمري كله لقاء قضاء ليلة واحدة معك..
ابتسمت له، فقد راودت، هذه الأفكار، خيال معظمنا – شباباً وبناتاًأحياناً تجاه بعض النجوم، وكنا نرددها بين بعضنا مازحين..
..
لاحظ سيف ابتسامتي فقال: نعم، كتبتها لأعبر عن شدة إعجابي بها.. ولكني فوجئت برسالة وصلتني منها تقول: هل أنت جاد؟..
أعترف هنا أن ابتسامتي قد اختفت وظهر الاستغراب على وجهي.. ورد صديقي على ذلك: نعم، أنا مثلك، لم أصدق في البداية.. استغربت أولاً الرد، وثانياً السؤال.. ولكن الرسالة كانت حقيقية وصادرة من مكتب مادونا، وبتوقيعها الذي أعرفه جيداً..
عدلت من جلستي وسألته: أنت متأكد من ذلك؟ فرد علي: ولكنني لم أنه القصة بعد.. قلت: أهناك شيء آخر؟ قال: نعم، وأكمل:
-
مضى علي عشرة أيام، بعد وصول رسالتها، وأنا أفكر بالأمر مقلباً إياه بين التصديق والتكذيب، حين وصلتني رسالة ثانية منها تقول: لم تجبني حتى الآن، هل أنت جاد؟
لاحظ سيف ما بدا على وجهي من الدهشة، فقال:
-
أنا كنت مذهولاً أكثر منك.. ولكي أتخلص من الدوامة التي بدأت أعيشها، أرسلت لها جواباً: نعم إني جاد. وفوجئت بالرد يصلني بسرعة: أرسل لي صورة عن جواز سفرك.. فأرسلت لها صورة عن جواز سفري، وأنا غير مصدق ما يجري معي، وكنت أفكر أن هناك من يمزح معي، وسأجاريه حتى أكشفه.. بعد أيام وصلتني رسالة بالبريد السريع، وفيها فيزا للزيارة، وتذكرة سفر باسمي على الخطوط الجوية الهولندية، وكلمات مقتضبة تقول: بعد أن تثبت موعد سفرك أرسل لنا برقية حتى نرسل أحداً لاستقبالك في مطار نيويورك.
صمت ناظراً إلي ليرى تأثير ما قاله على وجهي.. تمالكت نفسي وقلت له: الآن أنت تمزح.. نظر إلي بصمت، ثم هم بالكلام لكنه توقف ونهض نحو الخزانة، وأخرج منها شيئاً عاد وقدمه لي. كان جواز سفره ووسطه تذكرة سفر، فتحت الجواز لأجد تأشيرة دخول إلى أمريكا وبطاقة سفر باسم سيف من الخطوط الجوية الهولندية. فوجئت فعلاً، وأخذت أعيد النظر فيهما.. كان كل شيء حقيقي، ورفعت رأسي نحوه غير مصدق.
قال لي: ما رأيك الآن؟
قلت له: لقد وضعتني في دوامة كبيرة..
قال لي: دخلت هذه الدوامة قبلك، وقلبت الأمر على وجوهه المختلفة، ولكني لم أصل إلى جواب.. وأخيراً حزمت أمري وقررت السفر.
قلت له: ماذا تعتقد أن مادونا تريد منك؟
أجابني: سأعطيك الجواب الذي أقنعني أكثر من غيره.. أنت تعرف أن مادونا مشهورة بنزواتها وتصرفاتها المتهورة، وقد يكون هذا أحد نزواتها.. على كل يكفيني مشاهدتها والحديث معها.. ونهض منهياً النقاش، وقال: سأحضر لك قهوتك.
قلت له وأنا أودعه: كن حذراً، وإن احتجت إلى أي شيء فأنت تعرف عنواني في دبي، وبكل الأحوال طمئني بعد أن تصل لأمريكا.
عدت إلى مقر عملي في الخليج. ومضى العام دون أن يصلني منه أي خبر. وعندما عدت إلى دمشق في إجازتي الثانية، توجهت مباشرة إلى بيته، فقد كنت متلهفاً في الحقيقة لسماع أخباره. قرعت الجرس، لم يفتح الباب ولكني أحسست بحركة خلفه، انتظرت قليلاً ثم عدت لقرع الباب الذي فتح بعد قليل، وكان سيف بجسمه يسد فتحة الباب وكأنه لا يريدني أن أدخل، وقد ظهر وجهه شاحباً، ووضع على عينيه نظارة سوداء.
نظر إلي بصمت وبقي على وضعه. قلت له: ألا تريدني أن أدخل؟
قال: أفضل أن نذهب إلى المقهى المجاور ونشرب القهوة هناك.
أحسست أن هناك شيئاً ما يحاول إخفاءه عني، ولو ذهبت معه إلى المقهى فسينجح في ذلك، هم بالخروج قبل أن أجيبه، ولكني وضعت يدي على صدره موقفاً إياه. انتبهت بعد وضع يدي إلى علائم ألم خفيف ظهرت على وجهه، ولذلك ابتعد للخلف، وبابتعاده دخلت وتابعت سيري إلى غرفته، وحين فتحت بابها فوجئت بمنظر الغرفة، لم يكن لها علاقة بالغرفة التي رأيتها في السنة الماضية.. كانت خالية من أي أثر لمادونا،.. لهذا لم يكن يريدني أن أدخل إلى غرفته.. كان فضولي كبيراً لأعرف سبب هذا التغيير. وبعد أن جلس بعيداً عني قلت له: أخبرني ماذا جرى معك؟.. تردد قليلاً ثم تمالك نفسه وتظاهر بالضحك وقال:
-
وماذا يمكن أن يجري، لقد مكثت في أمريكا لمدة شهرين ثم عدت.
وقلت له، وقد أدركت أنه يحاول التهرب من الحديث: هل رأيت مادونا؟..
أحسست أنه فوجئ بالسؤال.. فأجاب بعد تردد قصير: نعم...
قلت له على الفور: غير صحيح، فلو شاهدتها ولو لدقائق لبقيت مادونا في غرفتك.. وقفت وأنا أنوي المغادرة.
قلت له: أنت حر في أن تكتم ما جرى معك هناك، ولكني لا أحب أن تكذب علي.
اتجهت نحو باب الغرفة حين أتاني صوته:
-
ابق هنا.. وسأحكي لك كل شيء.
عدت إلى مكاني، وبعد أن جلست نظرت إليه، كان مطرقاً برأسه، أحسست به يعاني من تردد في البوح.. وأخيراً رفع رأسه نحوي وكان هناك دمعة تسيل على خده ببطء. استغربت ذلك وقلت له: لم لا تخلع النظارة؟.. لم يجبني، ومسح دمعته وقال:
-
بعد أن وصلت نيويورك كان هناك شخص يحمل لافتة باسمي، اتجهت نحوه وقدمت نفسي له.. أخذني إلى شقة فخمة، لا تبعد كثيراً عن المطار، وقال: يمكنك أن تأخذ راحتك حتى المساء حيث ستأتي مادونا للقائك.. لم أكن أصدق أنني سأراها، ولذلك لم أستطع النوم رغم تعبي من السفر.. في المساء رن الهاتف، وتحدث معي الشخص الذي استقبلني، وقال إن مادونا تأسف لعدم قدومها، فقد أصيب صديقها بحادث سيارة، وهو في المستشفى للعلاج، وهي ستضطر للبقاء إلى جانبه. وبعد ساعة قرع باب الشقة ففتحته وكان هو نفس الشخص، وكان قلقاً ومضطرباً، سألته ماذا جرى؟ قال إن صديق مادونا بحالة خطرة وهو بحاجة إلى كلية، وقد تبرعت مادونا بكليتها ولكنها بعد الفحص المطلوب لم تطابق جسم صديقها.. وفكرت وقلت في نفسي كرمى لعين مادونا سأتبرع أنا بكليتي لصديقها، وأخبرت الشخص بذلك، فشكرني ثم أخذني إلى المستشفى، حيث وقعوني على بعض الأوراق، وقد تمت الأمور بسرعة حتى أني لم أقرأ ما وقعت عليه. أعطوني بعدها مخدراً وأدخلوني إلى غرفة العمليات..
لم أعد إلى وعيي تماماً إلا بعد شهر تقريباً، وعندما رأيت الشخص إياه سألته عما حدث، قال لي إن مادونا تشكرك على تبرعك بما لزم صديقها من قطع غيار – قالها سيف بسخريةفسألت الشخص وهل لزمه أكثر من الكلية؟ قال لقد اضطررنا لأخذ عينك اليسرى أيضاً. وضعت يدي على عيني المضمدة فقال اطمئن سنضع لك عيناً زجاجية مكانها ولن يلحظ أحد الفرق.. قلت له أين مادونا، فأجابني لقد اضطرت للسفر مع صديقها في رحلة نقاهة، وأخشى أنك لن تستطيع رؤيتها، فمدة إقامتك ستنتهي قبل عودتها وستكون ملزماً بالسفر، ولكنها تركت لك مكافأة مادية بقيمة خمسة آلاف دولار تجدها في هذا المغلف..
ساعتها أدركت أني وقعت ضحية عصابة متخصصة في المتاجرة وسرقة الأعضاء البشرية. وقد تأكدت من ذلك فيما بعد..
سألته وأنا لا أزال على دهشتي مما سمعت: كيف تأكدت؟
قال: اجتمعت في الطائرة وأنا عائد من نيويورك بفتاة مغربية كانت تجلس بجانبي، وكانت تضع نظارات سوداء كما أضع أنا، ولكنني لاحظت أنها تتحسس الأشياء بيديها، فأدركت أنها لا ترى كلية. ومن خلال الحديث وبعد أن اعترفت لها بما حدث معي، اعترفت هي أيضاً بما جرى معها، وكان مشابهاً لما حدث معي، ولكن العصابة التي وقعت بين أيديها أخذت بالإضافة لما أخذته من داخلها، أخذت عينيها الاثنتين.. سألته وهل كانت هي أيضاً معجبة بمادونا..
قال: لا.. إنها كانت معجبة بمايكل جاكسون..
وهنا بدأ سيف يضحك، فاستغربت ضحكه، وسألته لماذا يضحك؟
قال: إنني أحمد الله أنني كنت معجباً بمادونا ولم أكن معجباً بمايكل جاكسون، وإلا لراحت العين الأخرى.
وأخذ يضحك بصخب حتى أن الدموع أخذت تنزل من عينه اليمنى مما اضطره إلى أن يخلع النظارة ويمسح الدمع النازل منها. نظرت إلى عينه الأخرى.. كانت جامدة ساكنة، تنظر إلي ببرود..
**
عندما أغلق الباب خلفي، سمعت صوتاً آتياً من الأعماق … لا أدري أكان هذا الصوت صادراً منه أم منيإنهم يسلبوننا كل شيء.

قصة : علاء الدين كوكش