اعملوا آل داود شكراً

 

المصدر : د. وليد أحمد فتيحي   

 

 

 

قبل بضعة أشهر دُعيت لإلقاء محاضرة تحت رعاية شركة الكهرباء السعودية وكانت بعنوان (تعميق مفهوم العميل ومقدم الخدمة), وفي اليوم المقرر لإلقاء المحاضرة جلستُ من بعد صلاة الفجر أتأمل قليلاً فيما سأقول وفيما حضَّرت فأدركتُ أنني في حاجة لتسليط الضوء على بعض المفاهيم الإدارية المختبئة في أعظم كنز عرفته البشرية وآخر كتب السماء للأرض وإسقاط هذه المفاهيم على العلوم الإدارية الحديثة والحياة. فاتصلت بأخي وأستاذي محمد سعد يحفظه الله الذي كان ومازال مصدر إلهام لي ولكل من يدور في دائرته, وفي خلال أقل من خمس دقائق على الهاتف استعرضنا معاً آية واحدة من آيات القرآن الحكيم فيها المقومات الأربع الرئيسية لنجاح أي عمل, صغير كان أو كبيراً على مستوى الفرد والعائلة, أو مستوى المؤسسات والشركات والدول.

أربع مقومات يُلقنها الله نبيه داود عليه السلام ومن ورائه أنبياء الله والبشرية جمعاء. ومنذ ذلك اليوم ماذكرتُ هذه الآية وإسقاطها إلا دعاني من سمعها بأن أكتبها وأنشرها حتى تعم بها الفائدة وها أنا ذا أفعل.

يقول الله سبحانه وتعالى {ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا لهُ الحديد* أن اعمل سابغات وقَدّر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير} سورة سبأ (الآية 10-11).

أما المقومة الأولى فهي قوله سبحانه وتعالى:

اعمل سابغات: والسابغات هي الدروع وقد روي أنها كانت تعمل قبل داود عليه السلام صفائح. الدرع صفيحة واحدة, فكانت تُصَلِّب الجسم وتثقله فألهم الله نبيه داود عليه السلام ووفقه بأن جاء بشيء جديد فيه إضافة وإبداع وفائدة, وذلك بأن يصنع الدروع رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم. وفي هذا تأكيد وتأصيل لأحد أهم مقومات نجاح أي مشروع أو عمل على أي مستوى من المستويات وهو أن يكون في العمل إضافة حقيقية وفائدة ملموسة (Add Value).

أما المقومة الثانية فهي قوله سبحانه وتعالى:

قدر في السرد: والأمر بالتقدير في السرد هو الأمر بتضييق تداخ ل هذه الرقائق لتكون مُحكمة لا تنفذ منها الرماح وكذلك تقدير المواد التي تدخل في صناعة الدرع فلا إفراط ولا تقتير, ففي الزيادة في المواد التي تدخل صناعة الدرع إهدار وإسراف للمواد وفي هذا تعارض مع تعاليم السماء التي تهذب المسلم وتعلمه وتدربه على عدم الإسراف في أي شيء وإن كان كثيراً, وضرب للمسلم أكبر مثل في النهي عن الإسراف في استخدام ماء الوضوء وإن كان من نهر جارٍ (وهي طهارة تسبق أعظم العبادات وهي الوقوف أمام الخالق في الصلاة), وربط هذا الحرص والبعد عن الإسراف والإهدار برضاه وإضفاء بركته على العمل وحرمانه لما دون ذلك. ففي زيادة المواد التي تدخل في صناعة الدرع فوق المطلوب تثقيل للدرع وفي هذا تعارض مع أهم خصائص صناعة الدرع المثالي الفعَّال الأقرب للكمال, وأما التقتير في استخدام المواد التي تدخل في صناعة الدرع إما لجهل أو عدم إخلاص وغش, فإن ذلك يضعف ويوهن من قوة الدرع وفي هذا ضياع للهدف من صناعة الدرع (الحماية والوقاية), وبذلك فإن الأمر في التقدير في السرد هو الأمر بتحقيق التوازن الدقيق بين الإفراط والتقتير وهو ما يسمى في علم الإدارة والصناعة بالفاعلية أو الكفاية أو جعل الشيء أقرب ما يكون للكمال والفعّالية (Efficiency & Optimization).

أما المقومة الثالثة فهي في قوله سبحانه وتعالى:

اعملوا صالحاً: وهي أن يكون العمل صالحاً نوعياً وكيفياً ومن أهم معايير صلاح العمل هو جودته أو جودة المنتوج (سواء كان ملموساً أو غير ملموس في أي من مجالات الحياة) فالجودة هي ترجمة كل الكلمات التي تكوَّن منها العمل فلا تستوي الكلمة الطيبة (بمفهومها الشامل لأي عمل) بالكلمة الخبيثة, وهو ما يسمى في علم الإدارة بالجودة والإتقان (Quality) (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) وهناك مؤسسات وهيئات دولية تضع معايير للجودة في كل مجالات الحياة وتقدم شهادات ضمان للجودة وتتسارع المؤسسات والصناعات بأنواعها في كل مجالات الحياة لتطبيق هذه المعايير والحصول على هذه الشهادات, والله من فوق سبع سماوات يأمر الأمة التي حملت هذه المسؤولية إلى قيام الساعة أن تتقن العمل.

أما المقومة الرابعة فهي في قوله سبحانه وتعالى:

إني بما تعملون بصير: وبدون هذه المقومة لا يمكن أن تتحقق المقومات الثلاث الأولى بشكل مستمر وهي ما يسمى في علم الإدارة بالمراقبة والمتابعة (Monitoring) وهناك علوم متخصصة في كيفية مراقبة العمل والتأكد من سيره وفق الأنظمة التي وضعت له لتحقي ق الرسالة والهدف والغاية وتصحيح العمل إذا انحرف عن المسار وهناك اليوم آليات متقدمة ومعقدة للمراقبة تختلف على حسب العمل صناعياً كان أم تجارياً أم اجتماعياً أم تعليمياً أم صحياً... إلخ, للتأكد من تحقيق أهداف العمل بأقرب ما يكون من الكمال والفعالية والإتقان والجودة. والله يدعونا ويعلمنا أن نضع الآليات المناسبة لمراقبة العمل لأن ذلك من مقومات نجاح العمل وقبوله وكذلك يؤكد علينا أنه فوق كل ذلك هو البصير الرقيب على العمل, أو بعد كل هذا ألا نتوقع من المسلم أن يضرب المثل:

* في تشجيع الإبداع وابتكار الجديد لإتمام الفائدة وتحقيق المنفعة (Add Value).

* وإحسان التقدير والتخطيط لإدراك الكمال والفعّالية (Optimization & .Efficiency)

* واصلاح الوسائل وطرق الإنتاج للوصول إلى الجودة والإتقان (Quality).

* وأن يضع الآليات المناسبة للمراقبة إذعاناً لأمر السماء ويعلم ويدرك ويتيقن قبل ذلك بأن الله على كل شيء رقيب (Monitoring).

لقد كتب الله على نفسه في قوله الزيادة والمعونة والبركة للشاكرين في قوله {لئن شكرتم لأزيدنكم}.

وعلَّمنا كيف يكون الشكر قياماً بما علمنا وعملاً به فقال (اعملوا آل داود شكراً) فلم يقل سبحانه اعبدوا أو اركعوا أو اسجدوا آل داود شكراً. وإنما قال اعملوا آل داود شكراً. وبين لنا المقومات الأربعة لقبول العمل ونجاحه في الدنيا والآخرة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. ندعو الله أن نكون ممن يستجيبون لنهجه ويمتثلون لأمره وينقادون لهدي نبيه حتى نكون بحق خير أمة أُخرجت للناس